بِالْمُعَاطَاةِ، وَكَالْوَقْفِ فِي مِثْل مَن بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّهَا تَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِن قَوْلٍ أَو فِعْلٍ، فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا وَإِجَارَةً فَهُوَ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ.
وإِن اخْتَلَفَ اصْطِلَاحُ النَّاسِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ: انْعَقَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَفْهَمُونَهُ بَيْنَهُم مِن الصِّيَغِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُسْتَمِرٌّ لَا فِي شَرْعٍ وَلَا فِي لُغَةٍ؛ بَل يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ اصْطِلَاحِ النَّاسِ كَمَا تتنَوَّعُ لُغَاتُهُمْ.
وَقَد ذَكَرَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ أَحْمَد؛ كَالْقَاضِي أبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ والمتأخرين: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي نِكَاحِ الْكُفَّارِ إلَى عَادَتِهِمْ، فَمَا اعْتَقَدُوهُ نِكَاحًا بَيْنَهُم جَازَ إقْرَارُهُم عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمُوا وَتَحَاكَمُوا إلَيْنَا، إذَا لَمْ يَكُن حِينَئِذٍ مُشْتَمِلًا عَلَى مَانِعٍ، وَإِن كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ.
فَهَذِهِ الْأمُورُ الَّتِي اعْتبَرَهَا الشَّارعُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ حِكْمَتُهَا بَيِّنَةٌ.
فَأمَّا الْتِزَامُ لَفْظٍ مَخْصُوصٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا نَظَرٌ.
وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْجَامِعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِن أَنَّ الْعُقُودَ تَصِحُّ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِن قَوْلٍ أَو فِعْلٍ: هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا أُصُولُ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْقُلُوبُ.
وَذَلِكَ أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (٤)} النساء: ٤، وَقَالَ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} النساء: ٢٩. فَإِنَّ الدَّلَالَةَ فِيهَا مِن وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ اكْتَفَى بِالتَّرَاضِي فِي الْبَيْعِ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} النساء: ٤، وَبِطِيبِ النَّفْسِ فِي التَّبَرُّعِ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (٤)} النساء: ٤.
فَتِلْكَ الْآيَةُ فِي جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي جِنْسِ التَّبَرُّعَاتِ، وَلَمْ