وَلِهَذَا حَرَّمَ اللهُ الْمَيْسِرَ الَّذِي مِنْهُ بَيْعُ الْغَرَرِ، وَمِن الْغَرَرِ مَا يُمْكِنُه قَبْضُهُ وَعَدَمُ قَبْضِهِ؛ كَالدَّوَابَّ الشَّارِدَةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَقْدِ -وَهُوَ الْقَبْضُ- غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ.
وَبِهَذَا وَقَعَ التَّعْلِيلُ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوَّ صَلَاحِهَا؛ كَمَا فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَن بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ:
وَمَا تُزْهِيَ؟ قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَرَأَيْت إذَا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ
بِمَ يَأْخُدُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟ " (١).
وَهَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِ نِزَاعٌ، وَهُوَ مِن الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجِبُ اتفَاقُ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ فِيهَا فِي الْجُمْلَةِ؛ فَإنَّ مَبْنَى ذَلِكَ عَلَى الْعَدْلِ وَالْقِسْطِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ كَالْمُبَايَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُعَادَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ مِن الْجَانِبَيْنِ لَمْ يَبْذُلْ أَحَدُهُمَا مَا بَذَلَهُ إلَّا لِيَحْصُلَ لَهُ مَا طَلَبَهُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا آخِذٌ مُعْطٍ طَالِبٌ مَطْلُوبٌ.
فَإِذَا تَلِفَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن قَبْضِهِ -مِثْل تَلَفِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ قَبْلَ التَّمَكنِ مِن قَبْضِهَا وَتَلَفِ مَا بِيعَ بِكيْل أَو وَزْنٍ قَبْلَ تَمْيِيزِهِ بِذَلِكَ وَإِقْبَاضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ-: لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُؤَجِّرِ أَو الْمُشْتَرِي أَدَاءُ الْأجْرَةِ أَو الثَّمَنِ.
ثُمَّ إنْ كَانَ التَّلَف عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ ضَمَانُهُ -وَهُوَ التَّلَفُ بِأَمْر سَمَاوِيٍّ-: بَطَلَ الْعَقْدُ وَوَجَبَ رَدُّ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي إنْ كَانَ قَبَضَ مِنْهُ، وَبَرِئَ مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُن قَبَضَ.
وإِن كَانَ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فِيهِ الضَّمَانُ وَهُوَ أَنْ يُتْلِفَهُ آدمِيٌّ يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ:
(١) رواه البخاري (٢١٩٨)، ومسلم (١٥٥٥).