وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ.
وَالْعُلَمَاءُ وإِن تَنَازَعُوا فِي حُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَبِيع قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَيُحَرِّمُ أَخْذَ الثَّمَنِ: فَلَسْت أَعْلَمُ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- حَدِيثًا صَحِيحًا صَرِيحًا فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ: "أنَّ تَلَفَ الْمَبِيع قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ" غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَاَلَّذِينَ يُنَازِعُونَ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ الْمَبِيع إذَا تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ يَكُونُ مِن ضَمَانِ الْبَائِعِ.
وَأَمَّا النِّزَاعُ فِي أَنَّ تَلَفَ الثَّمَرِ قَبْلَ كَمَالِ صَلَاحِهِ: تَلَفٌ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُمْ (١) يَقُولُونَ: هَذَا تَلِفَ بَعْدَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ حَصَلَ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَهُ؛ فَإِنَّ هَذَا قَبْضُ الْعَقَارِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَرلأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَجَوَازُ التَّصَرّفِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيع قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، فَهَذَا سِرُّ قَوْلِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُم: إنَّهُ تَلِفَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَمَمْنُوعٌ؛ بَل نَقُولُ: ذَلِكَ تَلفٌ قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ وَكَمَالِهِ؛ بَل وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِن الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَلَيْهِ تَمَامُ التَّرْبِيَةِ مِن سَقْيِ الثَّمَرِ، حَتَّى لَو تَرَكَ ذَلِكَ لَكَانَ مُفَرِّطًا، وَلَو فُرِضَ أَنَّ الْبَائِعَ فَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن التَّخْلِيَةِ فَالْمُشْتَرِي إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَقْبِضَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ الْمُعْتَادِ، فَقَد وُجِدَ التَّسْلِيمُ دُونَ تَمَامِ التَّسَلُّمِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُم بِأَنَّ الْقَبْضَ هُوَ التَّخْلِيَةُ: فَالْقَبْضُ مَرْجِعُهُ إلَى عُرْفِ النَّاسِ، حَيْثُ لَمْ يَكُن لَه حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ.
وَقَبْضُ ثَمَرِ الشَّجَرِ لَا بُدَّ فِيهِ مِن الْخِدْمَةِ وَالتَّخْلِيَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ، بِخِلَافِ قَبْضِ مُجَرَّدِ الْأصُولِ.
(١) أي: الذين لا يرون وضع الجوائح كالشافعي في الجديد وأبي حنيفة رحمهم الله تعالى.