فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي الله عنه- وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ وَجَاؤُوا إلَيْهِ قَالَ لَهُم الصِّدِّيقُ: اخْتَارُوا إمَّا الْحَرْبَ الْمُجْلِيَةَ، وَإِمَّا السِّلْمَ الْمُخْزِيَةَ؟
قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ هَذِهِ الْحَرْبُ الْمُجْلِيَةُ قَد عَرَفْنَاهَا فَمَا السِّلْمُ الْمُخْزِيَةُ؟
قَالَ: تَدُون قَتْلَانَا وَلَا ندي قَتْلَاكُمْ، وَتَشْهَدُونَ أَنَّ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، وَنقسمُ مَا أَصَبْنَا مِن أَمْوَالِكُمْ، وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِن أَمْوَالِنَا، وَتُنْزَعُ مِنْكُمْ الْحَلَقَةُ وَالسِّلَاحُ، وَتُمْنَعُونَ مِن رُكُوب الْخَيْلِ، وَتُتْرَكُونَ تَتَّبِعُونَ أَذْنَابَ الْإِبِلِ، حَتَّى يُري اللهُ خَلِيفَةَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنَيْنِ أَمْرًا بَعْدَ رِدَّتِكُمْ (١).
فَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ، إلَّا فِي تَضْمِينِ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ لَهُ: هَؤُلَاءِ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأُجُورُهُم عَلَى اللهِ.
يَعْنِي: هُم شُهَدَاءُ فَلَا دِيَةَ لَهُمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ.
وَهَذَا الَّذِي اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ هُوَ مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَاَلَّذِي تَنَازَعُوا فِيهِ تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، فَمَذْهَبُ أَكْثَرِهِمْ أَنَّ مَن قَتَلَهُ الْمُرْتَدُّونَ الْمُجْتَمِعُونَ الْمُحَارِبُونَ لَا يُضْمَنُ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ آخِرًا.
وَلَا ريبَ أَنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِم مِن أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ وَأَكْبَرِ الْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِن جِهَادِ مَن لَا يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ مِن الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ مِن جِنْسِ جِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ، وَالصِّدِّيقُ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ بَدَؤوا بِجِهَادِ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ جِهَادِ الْكُفَّارِ مِن أَهْل الْكِتَابِ؛ فَإِنَّ جِهَادَ هَؤُلَاءِ حِفْظ لِمَا فُتِحَ مِن بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَن أَرَادَ الْخُرُوجَ عَنْهُ، وَجِهَادَ مَن لَمْ يُقَاتِلْنَا مِن الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِن زِيَادَةِ إظْهَارِ الدِّينِ، وَحِفْظ رَأسِ الْمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى الرِّبْحِ.
(١) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (٢٨٩٤٥)، والبيهقي في السنن الكبرى (١٧٦٣٢).