قال تعالى حكايةً لقول إبليس: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (١١٩)} النساء: ١١٩.
يَقْوَى تسلُّطُ الشيطانِ على الإنسانِ حتَّى يَأمُرَه وهو لا يَشعُرُ، يأمُره في صورةِ الإضلالِ والتمنِّي، ومِن ضَلالِه: أمرُه بقَطعِ آذانِ الأنعامِ؛ لِتَكونَ بَحِيرَةً سائحةً في الأرضِ مُحرَّمةً، وقد كان أهلُ الجاهليَّةِ يَقطَعونَ آذانَ بعضِ أنعامِهم، ويُسمُّونَها بَحيرةً وسائبةً، يَحرُمُ مَسُّها والتعرُّضُ لها؛ لآلهتِهم وأصنامِهم، وكانوا يَجعَلونَ مِن ذلك دِينًا، كما قاله قتادةُ وعِكرِمةُ والسُّديُّ وغيرُهم (١).
السوائبُ في الجاهليَّة:
وكان الرَّجلُ الجاهليُّ يَنذِرُ نَذْرًا إذا قَدِمَ مِن سفَرٍ، أو عُوفِيَ مِن عِلَّةٍ، أو نَجَا مِن مَهْلَكَةٍ أو حربٍ؛ يقولُ: "ناقتي هذه سائبةٌ"؛ أيْ: تُسيَّبُ فلا يُنتفَعُ بظهرِها، ولا تُحَلَّأ عن ماءٍ، ولا تُمنَعُ مِن كلَإٍ، ولا تُركَبُ (٢).
وهؤلاءِ وقَعوا في الشِّركِ مِن وجوهٍ في عمَلِهم هذا:
أوَّلُها: أنَّهم نَذَروا لغيرِ الله، والنَّذرُ طاعةٌ لا يكونُ إلَّا له، وهؤلاءِ نذَروا لآلهتِهم.
ثانيها: أنَّهم نسَبُوا سلامتَهم مِنَ المرضِ والموتِ لآلهتِهم؛ لهذا شكَروها نَذرِهِمُ الذي يَظنونَهُ عبادةً.
ثالثها: جوَّزوا لأنفُسِهم تقطيعَ آذانِ الأنعامِ تديُّنًا، وهو لا يَصِحُّ لو
(١) "تفسير الطبري" (٧/ ٤٩٣)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٤/ ١٠٦٩).
(٢) "لسان العرب" (١/ ٤٧٨).