لما عندَهُ؛ وهذا قبَسٌ مِن العبوديَّةِ لا يكادُ يَسْلَمُ منه أحدٌ؛ ولذا خَفَّفَ اللهُ فيه؛ لمشقةِ الاحترازِ منه، وأمَرَ بالاحترازِ منه الكُمَّلَ مِن العِبَادِ كالأنبياءِ؛ ولذا قال اللهُ لنبيِّهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَي مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} الحجر: ٨٧، ٨٨، فأمَرَهُ بإطلاقِ الفِكْرِ والعَيْنِ قي القرآنِ؛ لأنَّ مَدَّ البصرِ يُورِث تعظيمًا للمنظورِ، حتى يصلَ بالإنسانِ إلي الافتتانِ به والعبوديَّةِ له: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} طه: ١٣١.
ولذا يُسمَّى اللاهي بالدِّينارِ والدرهم عن حدودِ اللهِ: عَبْدًا له، وفي الحديثِ: "تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ" (١).
وروى ابنُ أبي شَيْبةَ، وأبو نُعَيْمٍ، عن هشامِ بنِ عُرْوةَ؛ قال: كان أبي إذا رأي شيئًا مِن أمرِ الدُّنيا يُعجِبُهُ، قال: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} (٢).
وإدامةُ النظرِ إلي الشيءِ تَنسِجُ خيوطًا تقيِّدُ القلبَ وتعلِّقُه به، حتى يُكبَّلَ القلبُ ويُصبِحَ أسيرًا لما يَرَى، ويَظُنُّ أنَّه حُرٌّ طليقٌ!
وإنَّما نَهى اللهُ نبيَّه عن "مَدِّ العَيْنِ"، ولم ينهَ عن النظرِ؛ لأنَّ المدَّ هو إطالةُ التأمُّلِ، والنهيُ عن أصلِ النظرِ يُنافي الحِكْمةَ مِن خَلْقِ العَيْنِ والإبصارِ؛ فالأرضُ مليئةٌ بالنِّعَمِ والأرزاقِ الممنوحةِ للخَلْقِ، فمنعُ النظرِ لها ابتداءً لا يُناسِبُ حِكْمةَ خَلْقِ البصرِ.
ورُوِيَ عن إبراهيمَ الخليلِ رَفْعُ بصرِهِ إلي السماءِ عندَ ضربِ أصنامِ قومِهِ؛ روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن الحَسَنِ؛ قال: خرَجَ قومُ إبراهيمَ - عليه السلام - إلي عِيدٍ لهم، وأرادُوا إبراهيمَ - عليه السلام - على الخروجِ، فاضطجَعَ على ظهرِهِ،
(١) أخرجه البخاري (٢٨٨٧) (٤/ ٣٤)؛ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٣٠١١٦) (٦/ ١٣٧).