وفي قولهِ تعالى: {غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} دَلَالةٌ على أنَّ بيتَ الإنسانِ لا يجبُ عليه الاستئذانُ ممَّن فيه، بل يدخُلُهُ بلا استئذانٍ ممَّن فيه؛ وهذا ظاهرُ قولِهِ تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} النور: ٦١.
وقولُه تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}: الاستئناسُ؛ يعني: الاسئذانَ مِن أهلِها، وقد قرَأَها ابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسِ وأبَيٌّ وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: (حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا) (١)، وسُمِّيَ الاستئذانُ استئناسًا؛ لأنَّه يُؤنِسُ صاحبَ الدارِ ويُبعِدُ عنه الوَحْشةَ والوجَلَ والخَوْفَ.
حُكْمُ الاستئذانِ عندَ دخولِ البيوتِ وصِفَتُهُ وعددُهُ:
وتحريمُ دخولِ البيوتِ إلَّا بالاستئذانِ دليل على وجوب الاستئذانِ، لأنَّ المحرَّمَ الذي لا يُستحَلُّ إلَّا بشرطٍ، فذلك الشرطُ واجبٌ له.
والاستئذانُ شُرِعَ لحُرْمةِ الدُّورِ وحُرْمةِ أهلِها، فلا يجوزُ دخولُها بدونِه؛ وقد رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ، عن سهلِ بنِ سعدٍ، قال: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَعَ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأسَهُ، فَقَالَ: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ؛ إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِن أَجْلِ البَصَرِ) (٢).
وأمَّا صفَة الاستئذانِ عندَ إرادةِ دخولِ البيوتِ، فتكونُ بإيصالِ صوتِ الداخلِ إلى أهلِها مِن غيرِ أن يدخُلَ فيها، ولا أن يَقِفَ وَسَطَ أبوابِها، بل يتنحَّى عنها يمينًا أو شمالًا؛ حتى لا يَرى مَن فيها؛ كما روى أبو داودَ؛ مِن حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ بُسْرٍ؛ قال: كان رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا
(١) "تفسير الطبري" (١٧/ ٢٤١)، و"تفسير القرطبي" (١٥/ ١٨٨).
(٢) أخرجه البخاري (٦٢٤١)، ومسلم (٢١٥٦).