دخولِ الحَرَمِ، وهذا مِن جنسِ ما حُرِّمَ القتالُ في الأشهُرِ الحُرُمِ لأجلِه، ثمَّ هم أشرَكُوا مع اللهِ غَيْرَهُ، وهو أعظَمُ عند اللهِ مِن القتلِ الذي يَستنكِرونَهُ على محمَّدٍ.
والهَوَى يَشغَلُ النفوسَ ويسلِّيها بتَعظيمِ الأدنى عنِ الأعلى؛ لأنَّ النفسَ تلومُ صاحِبَها عَلَى تركِ الحقِّ ولو كانت مُعانِدةً، فيَشْغَلُها بالأدنى لِتتغافَلَ عن غيرِهِ وتَرضَى وتسكُنَ، والنفسُ لا تَقْوَى عَلَى طَمْسِ الفِطْرةِ وتغييبِها؛ فتَجعَلَهُ يتجاهَلُ الحقَّ كلَّه، ولكنَّها تغيِّبُ الأعلى وتُظهِرُ الأدنى وتعظِّمُه، فيضعُفُ لومُ النفسِ الفطريُّ على صاحبِه.
وهذا كسكونِ نفوسِ المشرِكِينَ وانشغالِها بسِقايةِ الحاجِّ وعِمَارةِ المسجدِ الحرامِ، وتعظيمُ ذلك مِن تسويلِ الشيطانِ لهم؛ هوَّن وحقَّر ما هو أعظَمُ منه، وهو التوحيدُ، فوقَعُوا في الشِّرْكِ غيرَ مُبالِينَ.
وصدُّ كفَّارِ قريشٍ للنبيِّ عن المسجدِ الحرامِ، وإخراجُ أهلِهِ منه: أعظَمُ عندَ اللهِ مِن قتلِ ابنِ الحَضْرَميِّ، وكفرُهُمْ أعظَمُ عندَ اللهِ مِن ذلك كلِّه.
واختُلِفَ في نسخِ هذه الآيةِ:
فقال قومٌ بنَسْخِها؛ وهو قولُ عطاءِ بنِ مَيْسَرةَ، والزُّهْريِّ؛ وصَوَّبَهُ ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ.
روى ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ، عنِ ابنِ جُرَيْجٍ؛ قال: قال عطاءُ بنُ مَيْسَرةَ: أحلَّ القتالَ في الشهرِ الحرامِ في "بَرَاءةَ" قولُهُ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} التوبة: ٣٦؛ يقولُ: فيهن وفي غيرِهِنَّ (١).
(١) "تفسير الطبري" (٣/ ٦٦٢ - ٦٦٣).