بعضِهم لبعضٍ كثيرٌ، وحاجتُهُمْ دائمةٌ بينَهُم، فجحودُ الحقِّ ونُكْرَانُهُ ضعيفٌ، والكتابةُ شاقَّةٌ على القليلِ والكثيرِ بينهم.
الثاني: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}، الدائرةُ التي يتعامَلُ بها أهلُ السوقِ في يومِهِم وليلتِهِم، فيكثُرُ أخذُهُم فيما بينَهم وإعطاؤُهم، فيكثُرُ بينَهُمُ المالُ في الذِّمَّةِ، ويتعذَّرُ كتابةُ كلِّ ذلك لصعوبتِه وكثْرَتِهِ.
فخَفَّفَ اللهُ في أمرِ الكتابةِ، وحثَّ على الإشهادِ في التجارةِ الحاضِرةِ الدائِرةِ؛ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}؛ لأنَّ الكتابةَ شاقَّةٌ بمثلِ هذه التجارةِ، وأمَرَ بالإشهادِ لسهولتِهِ؛ حفظًا للحقوقِ، ودفعًا للخصوماتِ؛ فإنَّ أكثَرَ الخصوماتِ هي بسببِ التساهُلِ في البيِّناتِ عند العقودِ.
وقولُه: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}:
الضررُ محرَّمٌ مِن الشهودِ والكاتبِ والمُمْلِي، وهم أمَناءُ على الحقوقِ؛ فَلا يجوزُ للكاتِبِ أن يزيدَ وينقُصَ فيما يُمْلَى عليه، ولا للشاهدِ كذلك فيما يَسْمَعُ وَيرَى.
وكان عمرُ وابنُ مسعودٍ يقرآنِ: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (١) - يُضارَرْ: بالمَبنيِّ للمجهولِ - أيْ: لا يَضُرَّ أصحابُ الحقوقِ الكاتِبَ والشهيدَ عندَ طلبِهِمُ الكتابةَ والشهادةَ، ويُلِحُّوا عليهِم ويُلْزْمُوهُمْ، فيُعطِّلُوا مَصَالِحَهُمْ وراءَهُمْ فتَضِيعَ؛ وبهذا قال ابن عبَّاسٍ ومجاهِدٌ وغيرُهُما (٢).
والفسوقُ في الآيةِ: الإثمُ المترتِّبُ على الخروجِ عن أمرِ اللهِ وامتثالِ طاعتِهِ.
(١) "تفسير الطبري" (٥/ ١١٤).
(٢) "تفسير الطبري" (٥/ ١١٥ - ١١٦).