ففي "الصحيحينِ"؛ مِن حديثِ عامرِ بنِ سعدٍ، عن أبيهِ؛ قال: "عَادَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ؛ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى المَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ؟ (لَا)، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: (لَا)، قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: (وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" (١).
وسعدٌ لم يكن له إلا بنتٌ حينَها، فاستكثَرَ النبيُّ عليه الوصيَّةَ بالثُّلُثِ؛ لأنَّ الوصيَّةَ لسدِّ حاجةِ محتاجٍ وحاجةُ الورثةِ أَوْلى، وسدُّ حاجتِهم المظنونةِ أعظَم مِن سدِّ حاجةِ غيرِهم المتيقَّنةِ؛ لأنَّ الوليَّ مُكلَّفٌ بذرَيَّته أعظَمَ مِن تكليفِهِ بغيرِهم، وعنهم يُسأَلُ أعظَمَ مِن غيرِهم.
والورثةُ مِن غيرِ وليِّهم يَنقطِعونَ غالبًا، وغيرُهم لهم مَن يقومُ بأمرِهم وشأنِهم، لهذا جعَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إغناءَ الورثةِ أَوْلى مِن سدِّ فقرِ غيرِهم.
وقد بيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سبَبَ تقييدِهِ الوصيَّةَ بالثُّلُثِ لسعدٍ مع استكثارِهِ لها، وهو خوفُ فقرِ الورثةِ ولسدِّ حاجتِهم وإغنائِهم؛ وذلك في قولِه: (إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً).
مع أنَّ وريثةَ سعدٍ ابنتُهُ، والبنت غالبًا لا تحتاجُ إلى مالٍ إذا كانتْ في ذمَّةِ زَوْجٍ يقومُ عليها؛ فالنفقةُ عليه لا عليها؛ ولذا فالوصيَّة بالثُّلُثِ مع الابنِ أَوْلى باستكثارِها؛ لأنَّه أكثَرُ نفقةً على نفسِه ومَن يَعُولُ.
حكمُ الوصيَّة بأكثر من الثلثِ:
ولا تجوزُ الوصيَّةُ بأكثَرَ مِن الثُّلُثِ ولو كان المالُ عظيمًا والورثةُ قليلًا؛ لِظاهرِ الدليلِ, ولكنْ لو أنفَقَ الرجلُ في حياتِهِ وصحَّتِهِ وأكثَرَ مِن النفقةِ ولو بأكثَرَ مِن الثُّلُث، جازَ منه ذلك بلا خلافٍ؛ فقد أنفَقَ أبو بكرٍ
(١) أخرجه البخاري (٤٤٠٩) (٥/ ١٧٨)، ومسلم (١٦٢٨) (٣/ ١٢٥٠).