بـ "التحذير"، وهو تنبيه المخاطب على أمر يجب الاحتراز منه، نحو: "إياك والشرّ"، وهو منصوب بفعل محذوف وجوبًا، فقيل: التقدير: اتّق نفسك والشناعة، وقيل: باعد نفسك من الشناعة، والشناعة منك، وقيل: احذر تلاقي نفسك والشناعة. وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
إِيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ ... مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ
وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لإِيَّا انْسُبْ وَمَا ... سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلْزَمَا
إِلَّا مَعَ الْعَطْفِ أَوِ التَّكْرَارِ ... كَالضَّيْغَمَ الضَّيْغَمَ يَا ذَا السَّارِي
وراجع تفاصيل المسألة في شروح "الخلاصة"، وحواشيها. والله تعالى أعلم.
(فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل، والضمير للشأن: أي إن الأمر والشأن (قَلَّمَا) "ما" هذه زائدة كافّة؛ لأنها كفّت الفعل عن عمل الرفع في الفاعل، قال ابن هشام الأنصاريّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في "كتابه "مغني اللبيب": ما معناه: لا تتصل "ما" هذه إلا بثلاثة أفعال، "قلّ"، و"كثُر"، و "طال"، وعلّة ذلك شبههنّ بـ "رُبّ"، ولا يدخلن حينئذ إلا على جملة فعليّة، صُرّح بفعليّتها، كقوله من الخفيف:
قَلَّمَا يَبْرَحُ اللَّبِيبُ إِلَى مَا ... يُورِثُ الْمَجْدَ دَاعِيًا أَوْ مُجِيبَا
وزعم بعضهم أن "ما" مع هذه الأفعال مصدريّة، لا كافّة. انتهى (١). وعلى هذا فالفعل بعدها صلتها، وهي في تأويل المصدر فاعل "قلّ". وقال الأمير في "حاشيته": وزاد بعضهم على هذه الأفعال "قَصُرَ"، وهي أفعالٌ لا فاعل لها، كالتوكيد اللفظيّ في قام قام زيد، و "كان" الزائدة. انتهى.
وقد نظمت ما ذُكر بقولي:
وَ "مَا" تَكُفُّ "طَالَ" "قَلَّ" "كَثُرَا" ... وَبَعْضُهُمْ زَادَ عَلَيْهَا "قَصُرَا"
فَلَا يَلِيهَا فَاعِلٌ كَقَامَا ... فِي قَامَ قَامَ صَالِحٌ إِكْرَامَا
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ مَا مُؤَوِّلَهْ ... فَمَعَ مَا يَلِي تَكُونُ فَاعِلَهْ
(حَمَلَهَا) أي الشناعة في الحديث (أَحَدٌ) بالرفع على الفاعليّة (إِلَّا ذَلَّ) بالبناء للفاعل، منِ باب ضرب، والاسم الذُّلُّ بالضمّ، والذّلّة بالكسر، والمذلّة: أي ضَعُفَ، وهان (فِي نَفْسِهِ) يعني أنه يكون ذليلًا حقيرًا عند الناس، فلا يُقبلون عليه (وَكُذِّبَ) بالتشديد، مبنيّا للمفعول (فِي حَدِيثِهِ) يعني أن الناس يكذّبون حديثه، فلا يَقبَلونه.
وحاصل كلام إياس رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنه حذّره أن يحدّث بالأحاديث المنكرة التي تُشنّع،
(١) "مغني اللبيب" ٢/ ٧ - ٨ بنسخة "حاشية الأمير".