ومقابل الصحيح أقوال:
أحدها: قبول الجرح غيرَ مُفَسَّر، ولا يُقبل التعديل إلا بذكر سببه؛ لأن أسباب العدالة يكثر التصنع فيها، فيَبْنِي الْمُعَدِّل على الظاهر، فهذا الإمام مالك مع شدّة نقله وتحرّيه، قيل له: في الرواية عن عبد الكريم بن أبي الْمُخَارق، فقال: غرّني بكثرة جلوسه في المسجد. يعني لما ورد من كونه بيتَ كل تقيّ.
الثاني: لا يقبلان إلا مُفَسَّرين، حكاه الخطيب والأصوليون؛ لأنه كما قد يَجرَح الجارح بما لا يَقدَح كذلك يوثِّق الْمُعَدِّل بما لا يقتضي العدالة، كما رَوَى يعقوب الْفَسَويّ (١) في "تاريخه" قال: سمعت إنسانا يقول لأحمد بن يونس: عبدُ الله العمري ضعيف، قال: إنما يُضَعِّفه رافضيٌّ، مُبغِضٌ لآبائه، لو رأيت لحيته وهيئته لعرفت أنه ثقة.
فاستدل على ثقته بما ليس بحجة؛ لأن حسن الهيئة يشترك فيه العدل وغيره.
قال السخاويّ بعد ذكره نحوَ ما سبق: ما نصّه: وهو ظاهرٌ، وإن أمكن أن يقال: لعله أراد أن توسّمه يقضي بعدالته فضلًا عن دينه ومروءته وضبطه، لكن يندفع هذا في العمريّ بخصوصه بأن الجمهور على ضعفه، وكثيرًا ما يوجد مدح المرء بأنك إذا رأيت سمته علمت أنه يخشى الله. (٢).
(الثالث): أنه لا يجب ذكر السبب في واحد منهما إذا كان الجارح والمعدّل عالمين بأسباب الجرح والتعديل، والخلافِ في ذلك، بصيرين مرضيين في اعتقادهما وأفعالهما.
وهذا اختيار القاضي أبي بكر، ونقله عن الجمهور، واختاره إمام الحرمين، والغزالي، والرازي، والخطيب، وصححه الحافظ أبو الفضل العراقيّ، والبلقيني في "محاسن الاصطلاح".
واختار الحافظ ابن حجر تفصيلًا حسنًا، فإن كان مَنْ جُرِح مجملًا قد وثقه أحد من أئمة هذا الشأن، لم يُقبَل الجرح فيه مِنْ أحدٍ كائنا مَنْ كان إلا مُفَسَّرًا؛ لأنه قد ثبتت له رتبة الثقة، فلا يُزَحْزَح عنها إلا بأمر جَلِيّ، فإن أئمة هذا الشأن لا يوثقون إلا من اعتبروا حاله في دينه، ثم في حديثه، ونَقَدُوه كما ينبغي، وهُمْ أيقظُ الناس فلا يُنقَض حكم أحدهم إلا بأمر صريح، وإن خلا عن التعديل قُبِل الجرح غيرَ مفسر، إذا صدر
(١) هو العالم الكبير يعقوب بن سفيان، سمع ورحل وصنّف، توفّي سنة (٢٧٧ هـ) و"الْفَسَويّ" بفتح الفاء والسين المهملة: نسبة إلى فَسَا مدينة من بلاد فارس.
(٢) "فتح المغيث" ٢/ ٢٦.