من عارف؛ لأنه إذا لم يُعَدَّل فهو في حَيِّز المجهول، وإعمالُ قول الْمُجَرِّح فيه أولى من إهماله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التفصيل الذي اختاره الحافظ هو الذي يترجّح عندي؛ لوضوح حجته.
وإلى ما ذُكر من الخلاف أشار في "الكوكب الساطع" بقوله:
وَالْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ فِي الْبَابَيْنِ (١) ... قَاضِيهِمُ يَقْبَلُ مُطْلَقَيْنِ
قَوْلُ الإِمَامَيْنِ وَإِطْلَاقُهُمَا ... يَكْفِي مِنَ الْعَالِمِ أَسْبَابَهُمَا
وَافَقَهُ فَالْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ لَا ... يُقْبَلُ إِلّا مِنْ إِمَامٍ ذِي عَلَا
وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ إِلّا بِالسَّبَبْ ... وَقِيلَ فِي التَّعْدِيلِ لَا الْجَرْحِ وَجَبْ
وَالْعَكْسُ فِي بَاب الشَّهَادَةِ الأَصَحّ ... وَفِي سِوَاهَا أَوَّلٌ إِذَا وَضَحْ
مَذْهَبُ جَارحٍ وَذَا (٢) فِي الْمُعْتَمَدْ ... مُقَدَّمٌ إِنْ زَادَ أَوْ قَلَّ عَدَدْ
وَقِيلَ فِي الْقِلَّةِ ذَا مَرْجُوحُ ... وَفِي التَّسَاوِي يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة عشرة): في اختلاف أهل العلم في الاكتفاء بتعديل الواحد، وجرحه:
الصحيح أن الجرح والتعديل يثبتان بواحد، سواء كان ذكرًا أو أنثى، حرّا أو عبدًا؛ لأن العدد لم يُشترط في قبول الخبر، فلم يُشترط في جرح راويه وتعديله؛ لأن التزكية بمنزلة الحكم، وهو أيضا لا يشترط فيه العدد، ولأنه إن كان المزكّي للراوي ناقلًا عن غيره فهو من جملة الأخبار، أو كان اجتهادًا من قِبَل نفسه فهو بمنزلة الحاكم، وفي الحالين لا يُشترط العدد، والفرق بينهما ضِيق الأمر في الشهادة لكونها في الحقوق الخاصّة التي يمكن الترافع فيها، وهي محلّ الأغراض بخلاف الرواية، فإنها في شيء عامّ للناس غالبًا، لا ترافُع فيه. قال ابن عبد السلام: الغالب من المسلمين مهابة الكذب على النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بخلاف شهادة الزور.
ولأنه قد ينفرد بالحديث واحدٌ فلو لم يُقبل لفاتت المصلحة، بخلاف فوات حقّ
(١) أي باب الشهادة وباب الرواية.
(٢) قوله: "وذا الخ" إشارة إلى مسألة تعارض الجرح والتعديل، وسيأتي تمام البحث فيها في المسألة التالية، إن شاء الله تعالى.