ثم إن لفظة "عن" صيغة أداء، استُعملت في الأسانيد المتّصلة، كما أنها استُعملت في الأسانيد غير المتّصلة، وهي لا تفيد الاتصال، ولا عدمه، بل هي تستعمل فيهما معًا، إلا أن ورودها للانقطاع أكثر، فقد كثُر ورودها في الأسانيد المدلّسة والمنقطعة، واستعملها المدلّسون، والمرسِلون، قال الإمام الخطيب البغداديّ رحِمَهُ الله تعالى: وقول المحدّث ثنا فلانٌ، قال: ثنا فلان أعلى منزلة من قوله: ثنا فلان عن فلان؛ إذ كانت "عن" مستعملة كثيرًا في تدليس ما ليس بسماع. انتهى (١).
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحِمَهُ الله تعالى في معرِض كلامه عن المدلّس-: "ومن شأنه أن لا يقول في ذلك: "أخبرنا فلان"، ولا "حدّثنا"، وما أشبهها، وإنما يقول: "قال فلان"، أو "عن فلان"، ونحو ذلك.
فالإتيان بلفظة "عن" فيما لم يُسمع من الأسانيد المرسلة والمنقطعة معروف، ومشتهر عند المحدثين، وهو من عادتهم في الرواية بالعنعنة (٢). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في قبول الإسناد المعنعن:
(اعلم): أن الذي يتّضح اتصاله من الحديث هو الذي قال فيه ناقله: "سمعت فلانا"، أو "حدثنا"، أو "أنبانا"، أو "نَبّأنا"، أو "أخبرنا"، أو "خَبَّرنا"، أو "قرأ علينا"، أو "قرأنا"، أو "سمعنا عليه"، أو "قال لنا"، أو "حَكَى لنا"، أو "ذَكَر لنا"، أو "شافهنا"، أو "عرض علينا"، أو "عرضنا عليه"، أو "ناولنا"، أو "كَتَب لنا"، إذا كتب له ذلك الشيء بعينه، وكان يَعرِف خط الكاتب إليه، وفي اعتماده على إخبار الْمُوصِل الثقة بأنه خطه وكتابه، -ثم الأصح جواز إلغاء الواسطة، وإن كان الأحوط اعتبارها، وتبيين الحالة كما وقعت- أو ما أشبه ذلك من العبارات المثبتة للاتصال النافية للانفصال.
فهذه كلها لا إشكال في اتصالها لغةً وعرفًا، إذا كان الطريق كله بهذه الصفة، وإن خالف بعضهم في بعضها.
وهذا كله قبل أن يَشِيع اختصاص بعض هذه الألفاظ بالإجازة المعينة أو المطلقة، على ما هو معلوم من تفاصيل مذاهب المحدثين في ذلك، ومن تخصيص بعض هذه الألفاظ ببعض الصور تمييزًا لأنواع التحمل، وتحرزًا من الراوي تَظهَر به نَزَاهته على ما هو مفسر في مواضعه.
(١) "الكفاية في علم الرواية" ص ٣٢٥ - ٣٢٦.
(٢) "السنن الأبين" لابن رُشَيد ص ٢٢، و"النكت على ابن الصلاح" لابن حجر ٢/ ٥٨٤.