لغير ذلك الحديث بقصد الإيهام إلا مُدَلِّسٌ يوهم أنه سمع ما لم يسمع أَنَفَةً من النزول، أو لغير ذلك من الأغراض التي لا يخلو أكثرها من كراهة، فانتهض ذلك مُرَجِّحًا لقبول المعنعن عند ثبوت اللقاء (١).
لا يقال: إن غير المدلس قد يقول: "عن" في محل الإرسال، ولا يُعدّ بذلك مدلسا؛ لأنه قد عُلم من مذهبه أنه لا يدلس.
لأنا نقول في الجواب: إن غير المدلس لا يفعله إلا فيما عُلِم أنه لم يسمعه لتحقق عدم المعاصرة، كما يقول التابعي أو تابعه أو من بعدهما: "روينا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا"، فهذا معلوم أنه بلاغ، فلا يوهم ذلك سماعا، فعَدَل عن العرف إلى عام اللغة، مكتفيا بقرينة عدم اللقاء والسماع، كما عَدَل هناك إلى خاص الاصطلاح، مكتفيا بقرينة معرفة السماع.
فإن قيل: قد وُجِد الإرسال من الصحابة -رضي الله عنهم-، وممن بعدهم، ممن يُعلَم أو يُظَنّ أنه لا يدلس عمن لقيه، وسمع منه.
قلنا: أما حال الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك الذين وجبت محاشاتهم عن قصد التدليس، فتحتمل وجوها:
منها: أن يكونوا فعلوا ذلك اعتمادا على عدالة جميعهم، فالمخوف في الإرسال قد أُمِنَ، يدل على ذلك ما قاله أنس بن مالك -رضي الله عنه-، ذكر أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" قال: نا موسى بن إسماعيل وهدبة قالا: نا حماد بن سلمة، عن حميد: أن أنسا -رضي الله عنه- حدثهم بحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له رجل: أنت سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فغَضِبَ غضبًا شديدًا، وقال: والله ما كل ما نُحدّثكم سمعنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن كان يُحدِّث بعضنا بعضًا، ولا يَتّهِم بعضنا بعضًا.
قال ابن رُشيد: ولذلك قَبِلَ جمهور المحدثين، بل جميع المتقدمين، وإنما خالف في ذلك بعض من تأصّل من المحدثين المتأخرين مراسيلَ الصحابة -رضي الله عنهم-، وعلى القبول محققو الفقهاء والأصلين.
ومنها: أن يكونوا أَتَوْا بلفظ: "قال"، أو "عن"، ولفظ "قال" أظهر؛ إذ هو مَهْيَع الكلام (٢) قبل أن يَغلِب العرف في استعمالهما للاتصال.
(١) قد عرفت أن حوار مسلم مع من يشترط اللقاء والسماع، لا اللقاء فقط، فتنبّه.
(٢) "المهيع" بفتح الميم، وسكون الهاء، وفتح الياء التحتانيّة بوزن مَقْعَد: البَيّن، يقال: طريق مهيعٌ: أي بيّنٌ. أفاده في "القاموس".