إيضاح المعنى الإجماليّ لهذه الفقرة:
بيّن رحِمَهُ الله تعالى أنه قد تكلّم بعض المعاصرين له ممن يدّعي علم الحديث، وليس هو من أهله في زعمه في تصحيح الأسانيد وتسقيمها بكلام لا ينبغي أن يُذكَر، ويُشاع، بل الأليق به أن يُعرض عنه صفحًا؛ لأن الإعراض عن القول الباطل أليق بإماتته، وإسقاط ذكر قائله؛ لئلا يكون في إشاعته تنبيها للجهّال عليه، لكن لَمّا خشي من سوء عواقبه، حيث إن الجهال يكثر فيهم الاغترار بالأمور المحدثة، ويسرعون إلى اعتقاد أخطاء المخطئين، والأقوال الساقطة عند أهل العلم، رأى الكشف عن فساد قول هذا القائل، والردَّ على مقالته بقدر ما يليق بها من الردّ أنفع للناس، وأحسن عاقبةً. هذا حاصل كلامه رحِمَهُ الله تعالى.
تنبيهات:
(الأول): أنه لم يصرّح الإمام مسلم رحمه الله تعالى في محاورته بهذا الشخص الذي أراده، بل أبهمه، وقد اختلف الناس في تخمينه، فقيل: يعني البخاريّ، وممن قال بهذا الصنعانيّ، وبعض المتأخرين، وهذا يردّه ما سبق أن مسلمًا فرغ من كتابه قبل لقائه البخاريّ؛ لأنه فرغ منه سنة (٢٥٠ هـ) وقد قال الحاكم أبو عبد الله: أول ما ورد البخاريّ نيسابور سنة تسع ومائتين، وكانت سنه حينئذ (١٥) سنة، ووردها في الأخيرة سنة خمسين ومائتين، فأقام بها خمس سنين يحدّث على الدوام. انتهى.
ومن المعلوم أن مسلما إنما لازمه في وروده الأخير بعد أن أكمل تأليف كتابه، فتبيّن بهذا أنه ما قصد البخاريّ في هذه المهاجمة الشديدة.
وقيل: أراد به البخاريّ وشيخه ابن المدينيّ، وهو ظاهر كلام الذهبيّ، وصرّح به سبط بن العجميّ، وفيه ما سبق في القول الذي قبله.
وقيل: أراد به ابن المدينيّ فقط، وإليه مَيلُ ابن كثير، وأيّده البلقينيّ، وعبارة ابن كثير: قيل: إنه يريد البخاريّ، والظاهر أنه يريد علي بن المدينيّ، فإنه يشترط ذلك في أصل صحّة الحديث، وأما البخاريّ فإنه لا يشترطه في أصل الصحّة، ولكن التزم ذلك في كتابه "الصحيح" انتهى (١).
وقال البلقينيّ: قيل: يريد مسلم بذلك البخاريّ، إلا أن البخاريّ لا يشترط في أصل الصحّة، ولكن التزمه في "جامعه"، أو لعله يريد ابن المدينيّ، فإنه يشترط ذلك
(١) "اختصار علوم الحديث" ص ٥٦ بنسخة "الباعث الحثيث".