في أصل الصحّة. انتهى (١).
وهذا الرأي ردّه الحافظ ابن حجر، وهو الخبير بمنهج الإمام البخاريّ وشرطه في "الصحيح"، فقال: ادّعى بعضهم أن البخاريّ إنما التزم ذلك في "جامعه"، لا في أصل الصحّة، وأخطأ في هذه الدعوى، بل هذا شرط في أصل الصحّة عند البخاريّ، فقد أكثر من تعليل الأحاديث في "تاريخه" بمجرّد ذلك. انتهى (٢).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح ما قاله بعضهم: الظاهر أن مسلمًا لم يقصد إلا إحقاق ما هو حقّ عنده، وردّ ما بلغه من قول بعض العلماء الذين ليس لهم قدم راسخ في العلم، ولا إمامة في الحديث في نظره، ولا من الأئمة المعتبرين، وإلا لَمَا أقدم على مثل هذه الألفاظ القاسية، والعبارات النابية، ولا سيّما في مثل البخاريّ، وعليّ بن المدينيّ، وغيرهما من الفحول، والجهابذة، ومما يؤيّد هذا قوله: "قول مخترع، مستحدث غير مسبوق صاحبه".
وقال الشيخ محمد زكريا الكاندهلويّ مؤيّدًا أن مسلمًا سمع هذا القول ممن ليس بإمام في العلم، أو الحديث: ما نصّه: وهو الذين يليق بشأن المؤلّف -أي مسلم- فإنه بعيد منه أن يردّ على شيخه أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاريّ على أبلغ وجه وآكده بحيث يجترأ على تجهيله، وإخراجه عن زمرة أهل العلم، فالقول بأنه أراد به الردّ على الإمام البخاريّ بخصوصه -كما اشتهر على الألسنة- فهذا إساءة الظنّ بالمصنّف كما لا يخفى. والله تعالى أعلم (٣). وهو بحث نفيس جدّا.
والحاصل أن مسلمًا لم يُرد البخاري، ولا ابن المدينيّ، بل أراد من ليس له رسوخ في العلم، ولا له شأن في تحقيق علم الحديث. والله تعالى أعلم.
(الثاني): أنه على تقدير ما قيل: إن مسلمًا أراد بهذه المهاجمة الشديدة البخاريّ، أو ابن المدينيّ، أو كليهما معًا، فقد اعتذر عنه بعضهم، فقال صاحب "فتح الملهم": إن المؤمن الغيور الصادق في نيّته، إذا بلغه عن أحد من المعروفين شيء يزعم فيه أن القول به يرادف هدم الدين، وردّ أحاديث سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يكن الواقع كذلك -تأخذه غيرة دينيّة، وحميّةٌ إسلاميّة، ينشأ عنها غضبٌ في الله تعالى على ذلك القائل، وإبغاضه لوجه الله تعالى، فيحمله ذلك على الوقيعة، وإغلاظ القول فيه، والتكلّم بمستشنعات الأقوال في حقّه، ظنّا منه أنه بصنيعه هذا مناضلٌ عن الدين، وذابّ عن حوض الشريعة، ثم قال: ومثاله ما تكلّم به مسلم- رحِمَهُ الله تعالى -في حقّ البخاريّ-
(١) "محاسن الاصطلاح" ص ٥٨.
(٢) "النكت على ابن الصلاح" ٢/ ٥٩٥.
(٣) "التعليق على الحلّ المفهم" ص ٢٠.