الشاهد منكم الغائب" أعظم الدليل على أن الصحابة كلهم عدول، ليس فيهم مجروح ولا ضعيف، إذ لو كان فيهم أحدٌ غير عدل لاستُثْنِي في قوله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: ألا ليبلغ فلان وفلان منكم الغائب، فلما أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ مَنْ بَعْدَهم دَلّ ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدّله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شَرَفًا. انتهى ما أوردناه من كلام أبي حاتم البستيّ (١).
واستدلاله بهذا من الحديث صحيح حسن، والإجماع شاهد على ذلك، وما أحسن ما قاله الإمام أبو عمرو بن الصلاح في تحرير هذا المعنى من: أن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، من لابس الفتن منسم وغيرهم، فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتَدّ بهم في الإجماع؛ إحسانًا للظن بهم، ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله -سبحانه وتعالى- أتاح الإجماع على ذلك؛ لكونهم نَقَلَة الشريعة (٢).
وهذا الذي قاله الإمام أبو عمرو بن الصلاح رَحِمَهُ اللهُ، قد سبقه إلى تحريره إمام الحرمين، أبو المعالي، عبد الملك بن عبد الله الجويني، وإنما جَمَع أطراف كلامه وما راق من ألفاظه الحُرّة الْجَزْلَة.
فإن اعترضت أيضًا أيها الإمام بإمكان احتمال الإرسال عن تابعي، إذ يحتمل أن يكون الصحابي رواه عن تابعي، عن صحابي، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن أرسله.
قلنا: نادر بعيد فلا عبرة به، وغاية ما قَدَرَ عليه الحفاظ المعتنون أن يُبرزوا من ذلك أمثلة نَزْرَةً، تَجْري مَجْرى الْمُلَح في المذاكرات والنوادر في النوادي.
(الجواب الثاني): وهو خاص أن نقول: قد اطلعنا -والحمد لله- أيها الإمام على صحة السماع لعبد الله بن يزيد، من أبي مسعود، وأحضَرَنَا منه ما غاب عنك الإمام الكبير أبو عبد الله البخاري رَحِمَهُ اللهُ، في "جامعه الصحيح" حسبما ذكرناه قبلُ من حديثه الذي ذكره في "المغازي" منصوصا فيه على السماع بما أغنى عن إعادته.
فمن حكم بصحته، وقَبِلَه، وأدخله في كتابه اطّلع على صحة السماع فيه، وعَلِم منه ما لم تعلم، هذا إن قَدّرنا منه مراعاة هذا الاحتمال النادر، من رواية الصاحب عن التابع، وما أبعد مراعاته، فلا نعلم قال به مَنْ يُعتَمد من أئمة الحديث.
وأما حديث عبد الله، عن حذيفة فقد خَرّجته أنت أيها الإمام جريًا على شرطك، ولم يُخَرِّجه هو؛ إما لعلة اطّلع عليها بسعة علمه لم تَطّلِع أنت عليها، أو يكون تركه للاختصار.
(١) راجع "مقدّمة "صحيح ابن حبّان" ١/ ١٦١ - ١٦٢ بنسخة "الإحسان".
(٢) "مقدّمة ابن الصلاح" ص ٢٨٧.