وَالَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ فِيهِ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ تَعَالَى رُوحَانِيُّونَ، وَالرُّوحَانِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الرُّوحِ، نِسْبَةَ الْخِلْقَةِ، فَكَأَنَّهُمْ أَرْوَاحٌ لَا جُثَثَ لَهُمْ، فَتَلْحَقُهَا الْأَبْصَارُ، وَلَا عُيُونَ لَهَا كَعُيُونِنَا، وَلَا أَبْشَارَ كَأَبْشَارِنَا.
وَلَسْنَا نَعْلَمُ كَيْفَ هَيَّأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَا شَاهَدْنَا، وَإِلَّا مَا رَأَيْنَا لَهُ مِثَالًا، وَكَذَلِكَ الْجِنُّ، وَالشَّيَاطِينُ، وَالْغِيلَانُ هِيَ أَرْوَاحٌ، وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهَا.
وَإِنَّمَا تَنْتَهِي فِي صِفَاتِهَا إِلَى حَيْثُ مَا وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لَنَا، وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ١.
ثُمَّ قَالَ: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} ، كَأَنَّهُ يَزِيدُ فِي تِلْكَ الْأَجْنِحَةِ مَا يَشَاءُ وَفِي غَيْرِهَا.
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَدْعُو الْمَلَائِكَةَ جِنًّا؛ لِأَنَّهُمُ اجْتَنُّوا عَنِ الْأَبْصَارِ، كَمَا اجْتَنَّتِ الْجِنُّ.
قَالَ الْأَعْشَى يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ:
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةً ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرٍ
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمَلَائِكَةِ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ، أَنْ تَتَمَثَّلَ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَأَتَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَفِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ، وَرَآهُ مَرَّةً قَدْ سَدَّ بِجَنَاحَيْهِ مَا بَيْنَ الْأُفُقَيْنَ.
وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِلْجِنِّ أَنْ تَتَمَثَّلَ وَتَتَخَيَّلَ فِي صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَمَا جَعَلَ للْمَلَائكَة.
١ الْآيَة: ١ من سُورَة فاطر.