قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} ١.
لَيْسَ مَا تَنْتَقِلُ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى الْحَقَائِقِ، إِنَّمَا هِيَ تَمْثِيلٌ وَتَخْيِيلٌ، لِتَلْحَقَهَا الْأَبْصَارُ.
وَحَقَائِقُ خَلْقِهَا، أَنَّهَا أَرْوَاحٌ لَطِيفَةٌ، تَجْرِي مَجْرَى الدَّمِ، وَتَصِلُ إِلَى الْقُلُوبِ، وَتَدْخُلُ فِي الثَّرَى، وَتَرَى وَلَا تُرَى.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِبْلِيسَ: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} ٢، يُرِيدُ: أَنَّا لَا نَرَاهُمْ فِي حَقَائِقِ هَيْئَاتِهِمْ.
وَقَالَ أَيْضًا: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} ٣.
يُرِيدُ: لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا، لَمْ تُدْرِكْهُ حَوَاسُّهُمْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَلْحَقُ حَقَائِقَ هَيْئَاتِ الْمَلَائِكَةِ، فَكُنَّا نَجْعَلُهُ رَجُلًا مِثْلَهُمْ لِيَرَوْهُ، وَيَفْهَمُوا عَنهُ.
وَقد ذكر بن عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الزُّهْرَةِ: "أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ الْمَلَكَيْنِ إِلَى الْأَرْضِ لِيَحْكُمَا بَيْنَ أَهْلِهَا، نَقَلَهُمَا إِلَى صُوَرِ النَّاسِ، وَرَكَّبَ فِيهِمَا الشَّهْوَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ يَرَوْنَهُ وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، وَإِلَّا مَنْ شَاكَلَهُمْ وَأَشْبَهَهُمْ" ٤.
وَلَمَّا تَمَثَّلَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذَا مَلَكُ اللَّهِ، وَهَذَا نَبِيُّ اللَّهِ، وَجَاذَبَهُ لَطَمَهُ مُوسَى لَطْمَةً أَذْهَبَتِ الْعَيْنَ الَّتِي هِيَ تَخْيِيلٌ وَتَمْثِيلٌ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَةً، وَعَادَ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى حَقِيقَةِ خِلْقَتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ كَمَا كَانَ، لَمْ ينتقص مِنْهُ شَيْء.
١ الْآيَة: ١٧ من سُورَة مَرْيَم.
٢ الْآيَة: ٢٧ من سُورَة الْأَعْرَاف.
٣ الْآيَة: ٨، ٩ من سُورَة الْأَنْعَام.
٤ رَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه مطولا عَن أبي زَكَرِيَّا الْعَنْبَري عَن مُحَمَّد بن عبد السَّلَام عَن إِسْحَاق بن رَاهْوَيْةِ عَن حكام بن سَالم الرَّازِيّ، وَكَانَ ثِقَة عَن أبي جَعْفَر الرَّازِيّ ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.