الْكَيُّ الْمَذْمُومُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَرَأَيْتُ بِخُرَاسَانَ رَجُلًا مِنْ أَطِبَّاءِ التُّرْكِ، مُعَظَّمًا عِنْدَهُمْ، يُعَالِجُ بِالْكَيِّ.
وَأَخْبَرَنِي وَتَرْجَمَ ذَلِكَ عَنْهُ مُتَرْجِمُهُ، أَنَّهُ يَشْفِي بِالْكَيِّ مِنَ الْحُمَّى وَالْبِرْسَامِ١.
وَالصُّفَّارِ٢ وَالسُّلِّ وَالْفَالِجِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدْوَاءِ الْعِظَامِ، وَأَنَّهُ يَعْمَدُ إِلَى الْعَلِيلِ فَيَشُدُّهُ بِالْقِمْطِ شَدًّا شَدِيدًا، حَتَّى يَضْطَرَّ الْعِلَّةَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْجَسَدِ، ثُمَّ يَضَعُ الْمَكْوَى عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَيَلْذَعُهُ بِهِ وَأَنَّهُ أَيْضًا يَكْوِي الصَّحِيحَ لِئَلَّا يَسْقَمَ فَتَطُولُ صِحَّتُهُ.
وَكَانَ -مَعَ هَذَا- يَدَّعِي أَشْيَاءَ مِنِ اسْتِنْزَالِ الْمَطَرِ وَإِنْشَاءِ السَّحَابِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَإِثَارَةِ الرِّيحِ مَعَ أَكَاذِيبَ كَثِيرَةٍ، وحماقات ظَاهِرَة بَيِّنَة، وَأَصْحَاب يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، وَيَشْهَدُونَ لَهُ عَلَى صِدْقِ مَا يَقُولُ.
وَقَدِ امْتَحَنَّاهُ فِي بَعْضِ مَا ادَّعَى، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُ إِلَى قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ.
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ فِي جَاهِلِيَّتِهَا، وَتَفْعَلُ شَبِيهًا بِذَلِكَ فِي الْإِبِلِ إِذَا وَقَعَتِ النُّقَبَةُ فِيهَا، وَهُوَ جَرَبٌ، أَوِ الْعُرُّ٣، وَهُوَ قُرُوحٌ تَكُونُ فِي وُجُوهِهَا وَمَشَافِرِهَا، فَتَعْمَدُ إِلَى بَعِيرٍ مِنْهَا صَحِيحٍ، فَتَكْوِيهِ لِيَبْرَأَ مِنْهَا مَا بِهِ الْعَرُّ أَوِ النُّقَبَةُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ النَّابِغَةُ فِي قَوْلِهِ لِلنُّعْمَانِ:
فَحَمَّلْتَنِي ذَنْبَ امْرِئٍ وَتَرَكْتَهُ ... كَذِي الْعُرِّ يُكْوَى غَيْرُهُ وَهُوَ رَاتِعُ
وَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي أَبْطَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ فِيهِ: "لم يتوكل من
١ البرسام: عِلّة يهذي فِيهَا.
٢ الصفار والصفر: دَاء فِي الْبَطن يصفر الْوَجْه، أَو دَاوُد فِيهِ يصفر الْوَجْه. الْقَامُوس ٥٤٥.
٣ العر والعر والعرة: الجرب، وبالضم قُرُوح فِي أَعْنَاق الفصلان، وداء يتمعط مِنْهُ وبر الْإِبِل. "الْقَامُوس".