القرآن بالرأي، ووقف المفسرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين:
فقوم تشددوا في ذلك فلم يجرءوا على تفسير شيء من القرآن، ولم يبيحوه لغيرهم، وقالوا: لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالمًا أديبًا متسعًا في معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وإنما له أن ينتهي إلى ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة - رضي اللَّه عنهم -، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين.
وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك، فلم يروا بأسًا من أن يفسروا القرآن باجتهادهم، ورأوا أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسر القرآن برأيه واجتهاده.
ثم يقول: " ولو رجعنا إلى هَؤُلَاءِ المتشددين في التفسير، وعرفنا سر تشددهم فيه، ثم رجعنا إلى هَؤُلَاءِ المجوزين للتفسير بالرأي، ووقفنا على ما شرطوه من شروط لابد منها لمن يتكلم في التفسير برأيه وحللنا أدلة الفريقين تحليلاً دقيقا - يظهر لنا أن الخلاف لفظي لا حقيقي.
ولبيان ذلك ينقل عن القاسمي قوله: الرأي ضربان:
أحدهما: جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما؛ لأمور:
أحدها: أن الكتاب لابد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم، فأما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها، فذلك غير ممكن؛ فلابد من القول فيه بما يليق.
والثاني: أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مبينا ذلك كله بالتوقيف.
فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول، والمعلوم أنه - عليه السلام - لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه، بل بين منه ما لا يتوصل إلى علمه إلا به، وترك كثيرًا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.
والثالث؛ أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه، والتوقيف ينافي هذا فإطلاق القول