أن يريد هو هداية من يعلم أنه يختار عداوته؛ لأن ذلك يكون من الضعف أن يختار المرء ولاية من يختار هو عداوته، فدل أنه لم يرد الهداية لمن علم منه اختيار الغواية والضلال.
ثم إضافة الإغواء والإزاغة والإضلال إلى اللَّه يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه ينشئ ذلك الفعل منهم غيا وزيغًا وضلالا لا بد؛ لأن فعلهم فعل غواية وزيغ.
والثاني: أنه خذلهم ولم يوفقهم ولم يرشدهم ولم يعصمهم ولا سددهم، فمن ذلك الوجه ليس فعله فعل الذم عليه حتى يتحرج بالإضافة إليه، ومن الإضافة إلى الخلق يكون على الذم؛ لأن فعلهم نفسه فعل غواية وضلال، فاستوجبوا الذم عليه بذلك، والإغواء من الخلق هو الدعاء إلى ذلك أو الأمر به، فهو مذموم يذمون على ذلك وليس من اللَّه تعالى من هذا الوجه، ولكن على الوجهين اللذين ذكرناهما.
وفي قوله: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) دلالة تعليق الشرط على الشرط.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥) أي: بل يقولون.
إنه افتراه من عند نفسه قل: (إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ): اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: قال قوم نوح لنوح - عليه السلام -: إنه افترى على اللَّه أنه رسول إليهم من اللَّه على ما سبق من دعائه قومه إلى دين اللَّه، فقالوا له: إنه افتراه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو قول قوم مُحَمَّد قالوا: افترى مُحَمَّد هذا القرآن من نفسه ليس هو من اللَّه على ما يزعم، وهو ما قال في صدر السورة، وهو قوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) إلى آخر ما ذكر، فعلى ذلك هذا هو قولهم لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنه افترى هذا القرآن الذي يقول هو من اللَّه من نفسه فقال: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي: إن افتريته فعليَّ جرمُ افترائي وجزاؤه.
(وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) معناه - واللَّه أعلم - أي: لا تؤاخذون أنتم بجرم افترائي إن افتريته، وأنا لا أؤاخذ بإجرامكم؛ كقوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) وكقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، فعلى ذلك إجرامي، وأمكن أن يكون هذا القول لهم لما أيس من إيمانهم؛ كقوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا