قلة مكثه وقصر عمره آمن من قومه الكثير يعرفه نعمه عليه، وفيه دلالة رد قول من يقول: إن المواعظ إنما تنفع، الموعوظ على قدر استعمال الواعظ، وليس هكذا ولكن على قدر قبول الموعوظ إياها وقدر الإقبال إليها؛ لأن نوحًا - عليه السلام - كان أشد الناس استعمالا للمواعظ وأكثرهم دعاء، ثم لم يؤمن من قومه إلا القليل؛ دل أنه ليس لما فهموا، ولكن لما ذكرنا.
وأما ما ذكر أهل التأويل أنه حمل في السفينة حبات العنب، فأخذه إبليس فلم يعطه إلا أن أعطى له الشركة، فذلك شيء لا علم لنا به، فإن ثبت ذلك فيكون فيه دلالة أن ليس له في سائر الأنبذة والأشربة نصيب، إنما يكون له فيما يخرج من العنب، وتقدير الثلث والثلثين إنما يكون في عصير العنب خاصة ليس في غيره، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) يحتمل قوله: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا) أنه لما قال لهم نوح: اركبوا فيها قولوا (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)، وهو كقول الناس باسم اللَّه من أوله على ما يقال، ويذكر اسم اللَّه في افتتاح كل أمر وكل عمل من ركوب ونزول وغيره.
ويحتمل قوله: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) أي: باللَّه مجراها ومرساها، أي: به تجري وبه ترسو، وأنه ليس كسائر السفن التي بأهلها تجري وبهم تقف، وهم الذين يتولون ويتكلفون إجراءها ووقوفها، وأما سفينة نوح كانت جريتها باللَّه وبه رسوها لا صنع لهم في ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ): هو ظاهر لمن آمن به وصدق رسوله ينجيه من الغرق والهلاك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢) هذا يدل على ما ذكرنا أنها كانت باللَّه تجري وبه ترسو؛ حيث لم يخافوا الغرق مع ما كان من الأمواج، وأما سائر السفن فإن أهلها خافوا من أمواجها، لما كانوا هم الذين يتولون ويتكلفون إجراءها ووقفها، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ): هذا يدل على أنها كانت آية؛ لأن الأمواج تمنع من جريان السفينة وسيرها، فإذا أخبر أنها لم تمنع هذه من جريانها دل أنه أراد أن تصير آية لهم.