فإذا رأوا أنه خلق آدم من الطين، وخلق سائر الحيوان من الماء، وخلق عيسى - عليه السلام - لا من هذين، كيف أنكروا إنشاء الخلق بعد الموت، وهو لا يخلو من هذه الوجوه التي ذكرنا، فيكون دليلاً على منكري البعث بعد الموت، وعلى الدهرية في إنشاء الخلق لا من شيء، فإنهم ينكرون ذلك ويحيلونه؛ ولهذا وقعوا في القول بقدم العالم، واللَّه الهادي.
ويحتمل قوله تعالى. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أن يراد به في حق جميع بني آدم، وأضاف خلقنا إلى الطين، وكان الخلق من الماء لما أبقى في خلقنا من قوة ذلك الطين الذي في آدم وأثره، وإن لم يره تلك القوة وذلك الأثر، وهذا كما أن الإنسان يرى أنه يأكل ويشرب ويتغذي، ويحصل به زيادة قوة في سمعه وبصره، وفي جميع جوارحه، وقد يحيى بها جميع الجوارح، وإن لم ير تلك القوة، فكذلك هذا.
ويحتمل -أيضًا- على ما روي في القصة أنه يمازج مع النطفة شيئًا من التراب، فيؤمر الملك بأن يأخذ شيئًا من التراب من المكان الذي حكم بأن يدفن فيه، فيخلط بالنطفة، فيصير علقة ومضغة، فإنما نسبهم إلى التراب لهذا.
ويحتمل النسب إلى التراب، وإن لم يكونوا من التراب؛ لما أن أصلهم من التراب، وهو آدم ".
فنلمح في هذا النموذج كيف يقلب الماتريدي الآية على وجوهها؛ ليعطي القارئ تصورًا عامًّا حول القضية التي تطرحها الآية، فحول قضية الخلق، نجده -أولاً- يعرض لمراحل الخلق جميعًا، وإمكانياته الواقعة في خلق اللَّه من لدن آدم.
ونجده -ثانيًا- يبين الغرض من هذه المراحل، وهو غرض مزدوج؛ حيث ترد هذه المراحل والإمكانيات على منكري البعث من جهة، وترد على الدهريين من جهة ثانية.
وهو في عرضه يعمل عقله حتى يكون الرد مقنعًا، بل إنه يعمل عقله ويستخدم القياس ليخرج الآية، وليبين لماذا كان التوجه إلينا بها مع أنها تنص على الخلق بالطين.
ثم إنه يعرض -ثالثًا- لاحتمال يدل على حس علمي شفيف، وهو أن كل حيوان مخلوق من ماء يخلط بنوع من التراب، وهذه لفتة علمية دقيقة، يؤكدها العلم في العصر الحاضر.
ثانيًا: النظرة الكلية للأشياء:
تؤكد النماذج السالفة تميز الماتريدي بنظرته الشمولية، وقدرته على ربط الجزئيات