ثم شرع يعدد أقوال أهل التأويل الأخرى، مفندًا إياها، فقال: " وأما ما قاله بعض أهل التأويل: إن رجلاً من المنافقين قال: واللَّه، لئن كان مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فسمعها رجل من المسلمين، فأخبر بذلك رسول اللَّه، فدعاه، فقال: " مَا حَمَلَكَ عَلَى الذِي قُلْتَ " فحلف والتعن ما قاله، فنزل قوله: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) هذا لو كان ما ذكر لكانوا يحلفون لرسول اللَّه، لا يحلفون لهم؛ دل أن الآية في غير ما ذكر.
ويذكر ابن عَبَّاسٍ أن الآية نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فجعلوا يحلفون لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين رجع أنهم لا يتخلفون عنه أبدًا. وكذلك قال غيره من أهل التأويل، ولكن لو كان ما قالوا لكانوا يحلفون لرسول اللَّه ويرضونه، لا للمؤمنين؛ دل على أن الأشبه ما ذكرنا من وجوه:
أحدها: أن فيه دلالة تحقيق رسالته ليعلموا أنه حق؛ حيث اطلع عليه بما أسروه في أنفسهم، وكتموا من المكر وأنواع السفه.
والثاني: ليحذروا ويمتنعوا عن مثله والمعاودة إليه؛ لما علموا أنه يطلع على جميع ما يسرون عنه ويكتمون.
والثالث: تنبيهًا للمؤمنين وتعليمًا لهم منه بأنه إذا وقع لهم مثل ذلك لا يشتغلون بالحلف؛ طلبًا لإرضاء بعضهم بعضًا، ولكن يتوبون إلى اللَّه، ويطلبون به مرضاته ".
والنقول التي جاء بها الماتريدي في هذا النص تدخل في إطار ما يعرف بأسباب النزول، ولكنه عزاها هو إلى أهل التأويل تارة وإلى ابن عَبَّاسٍ تارة أخرى، ثم ردها دون أن يتحقق من مدى صحتها، ولعل هذا من المآخذ التي يمكن أن يؤاخذ بها في تفسيره، لكن مع ذلك فإن ما ساقه من حجج عقلية يقوي موقفه، خاصة وأنه ساق رواية تكاد تكون رواية فرضية، يفهم هذا من كلامه؛ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: يدل هذا النص على أن الماتريدي لا يهمل أسباب النزول في تفسيره، وإن كانت طريقته ذات سمات خاصة في عرضه لهذه الأسباب تخالف ما درج عليه المفسرون، فالمفسرون حين يتعرضون لذكر هذه الأسباب يصرحون بذلك، فيقولون: ورد في سبب النزول كذا، أو سبب نزول هذه الآية أو الآيات ما روي كذا. . . وهكذا.
وقد يعرض الماتريدي أقوال أهل التأويل دون أن يتعرض لها بالنقد، ولكن يضيف إليها، كما جاء في تفسير قوله تعالى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ)