تعالى - يسر على نبيه حفظه؛ حتى كان يعي جميع ما ينزل إليه جبريل - عليه السلام - بما يقرؤه عليه مرة واحدة.
وقيل له: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) الآية؛ فضمن له الحفظ؛ فأمن النسيان، فأما غيره فإنه يشتد عليه أن لو كلفه حفظه بدفعة واحدة؛ فأنزل مفرقا، ليكونوا أقدر على حفظه؛ ولهذا ما كثر حفاظ القرآن في هذه الأمة، وكثر قراؤها، وكثر فقهاء هذه الأمة؛ لأن القرآن أنزل مفرقا على أثر النوازل؛ فعرفوا مواقع النوازل؛ فوقفوا على معرفة ما أودع في الآيات؛ لمعرفتهم مواقع النوازل والمنسوخ، ولو نزل جملة واحدة اشتبه عليهم الناسخ والمنسوخ؛ فأنزله اللَّه - تعالى - مفرقا؛ ليكونوا بعلم الناسخ والمنسوخ واللَّه أعلم.
ولأنه إذا أنزل مفرقا، كانوا إليه أشوق، وأرغب منه إذا أنزل جملة واحدة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ. . .) الآية، فأخبر أنهم يرغبون إلى أن تنزل عليهم سورة، وإن كانوا قد أنزلت إليهم سُورَة من قبل.
وفيه - أيضا - تخويف للمنافقين؛ كما قال اللَّه - تعالى: - (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ)؛ فكان في إنزاله مفرقا ما ذكرنا من الفوائد والمنافع للمؤمنين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ... (٢٤).
فيه أنه ابتلاه بما تكرهه نفسه، ويشتد عليها، حتى دعاه إلى الصبر؛ لأن المرء لا يدعى إلى الصبر على النعم واللذات، وإنما يدعى إليه إذا ابتلي بالمكاره البليّات، وقد صبر - عليه السلام - على المكاره؛ لأنه أمر بمضادة الجن والإنس؛ فانتصب لهم حتى آذوه كل الأذى، وهموا بقتله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا):
كأنه قال: ولا تطع من دعاك إلى ما تأثم فيه، أو يكون كفورا.
أو لا تجب الآثم أو الكفور إلى ما يدعوك إليه.
وقوله - تعالى -: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٢٥):