وهذه هي نفس النتيجة التي توصل لها محققا كتاب الكرماني «العنوان في النحو»، حيث قالا: (ولم يتبين لنا مذهبه النحوي من خلال نصّ الرسالة لأنه مزج بين مصطلحات المدرستين البصرية والكوفية، وعرض آراءهما من غير ترجيح رأي على آخر) (١).
ونفس المشكلة ظهرت لي، فهل الرجل أشعري أم ماتريدي؟ وهل هو حنفي أم شافعي؟ وطوال فترة البحث وأنا أجمع المرجِّحات من أقواله، وأقوال الذين ينقلون عنه، والمترجمين له، ولم أظفر بما أعتبره يقيناً في هذه المسألة، وإن كان الغالب عندي الآن أنه أشعري، رغم كونه حنفياً، وهذا غريب في تراجم العلماء، ولكن تزول الغرابة إذا علمنا أنه لم يكن من المتعصبين في عقيدته وفقهه ومذهبه النحوي كذلك، ويزول الاستغراب أيضاً إذا علمنا أن إقليم كرمان فيه حنفية وشافعية (٢).
وقبل الحديث عن أشعرية الكرماني، أشير إلى أنه لم يكن معتزلياً في تفسيره رغم نقولاته عن بعض وجوه المعتزلة، ومما يظهر ذلك بوضوح ما يلي:
١ - صدَّرَ الكرماني تفسيره بقوله: (الحمد لله منزل القرآن غير محدث ولا مخلوق)، ومذهب المعتزلة هو القول بخلق القرآن.
٢ - وقال أيضاً في مطلع تفسيره: (فالجنة والنار مخلوقتان)، ومذهب المعتزلة أن الله ينشئهما يوم القيامة.
٣ - وقال في مطلع تفسيره: (بشَّرَ المؤمنين في الحياة الدنيا بالرؤية في الآخرة فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} القيامة: ٢٢ - ٢٣) وحَرَّمَ الرؤية والنعيم على الجاحدين فقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} المطففين: ١٥)، والمعتزلة هم الذين ينكرون الرؤية.
٤ - قال الكرماني في أثناء تفسير الآية (٣) من سورة البقرة: (كل ما يصل إلى العبد من عطية فهو رزق الله حلالاً كان أو حراماً)، وهذا خلاف قول المعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق.
كما أورد بعض الردود على الرافضة، ومن ذلك:
١ - قال في أثناء تفسيره للآية (٨٢) من سورة النساء: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}. قال الكرماني: (وهذا قاطع لقول من زعم من الرافضة أن القرآن لا يفهم معناه إلَاّ بتفسير الرسول له).
٢ - وقال في أثناء تفسير الآية (١٠) من سورة الحديد: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. قال الكرماني: (وفي هذه الآية دليل واضح وبرهان لائح على فضل أبي بكر وتقديمه، لأنه أول من أسلم، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: سبق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وثنَّى أبو بكر وثلَّث عمر رضي الله عنهما، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري وطرح الشهادة).
(١) ص (٢٧) من مقدمة المحققين لكتاب «العنوان في النحو» للكرماني.
(٢) انظر: «أحسن التقاسيم» للمقدسي (ص ٤٦٨) وهامشه.