وعن ابن عبّاس رضيَ الله عنهما: " نزلت مع آدم ثلاثةُ أشياء: الحجر الأسود، وكان أشدُّ بياضاً من الثّلج، وعصا موسى، وكانت من آس الجنَّة (١) طولها عشرة أذرع، والحديد" (٢).
وروي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - النّبي - صلى الله عليه وسلم - (٣) أنَّه قال: ((أنزل الله - تعالى - أربع (٤) بركاتٍ من السماء: الحديد، والنَّار والماء (٥) والملح)) (٦).
وقيل: معنى أنزل خلق وأظهر كقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} الزمر: ٦.
وقيل: {وَأَنْزَلَ}: هيأ، من النُّزل، تقول: أنزل الأمير لفلان نُزُلاً حسناً.
وقيل: أنزل الماءَ فانعقد به جوهرُ الحديد، فأصله من الماء، وهو منزَلٌ (٧).
والقول هو الأول؛ لأنَّه (٨) لولا ذلك لمّا تهيّأ استخراجُ شيءٍ من المعادن واتخاذ شيء
من الآلات؛ لأنه لا يستغني في شيء من ذلك عن الحديد، والحديدُ لا يعمل إلاّ
بالحديد (٩).
{فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي: يُتحصَّن به عن العدوّ باتّخاذ الدِّرع والمِغفَر، وغير ذلك منه. ويُقتل به العدوُّ باتّخاذ السيف والسِّنان والزُّجّ (١٠)، وغير ذلك منه.
{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}: في الحرث والحصد وسائر الصناعات (١١).
{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}: قيل: أنزل الحديدَ لينصرَ عبادُه ربَّهم ورسلَه وأولياءَه بهذا الحديد (١٢).
الزَّجاج: ليعلمَ من يقاتلُ في سبيله (١٣).
وقيل: أنزلَ الكُتبَ والميزانَ وأرسل الرسلَ ليختبرَ النَّاسَ بذلك فيعلمَ وقوعَ الفعلِ في نصرتهم.
ويحتمل: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ}: فعل ما فعل.
ومعنى "يعلم الله " قد سبق (١٤).
قوله: {بِالْغَيْبِ}: متعلّق بقوله: {يَنْصُرُهُ}.
قوله: {وَرُسُلَهُ} عطف على الهاء، ولا يجوز في العربية أنْ يكونَ عطفاً على ... {مَنْ} (١٥).
{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)}: أي: {قَوِيٌّ} على الامتناع، {عَزِيزٌ} عن الاعتراض عليه.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ}: خُصّا بالذكر؛ لأنهما أبوان للأنبياء ... - عليهم السلام - (١٦) (١٧).
{وَجَعَلْنَاهُ فِي ذُرِّيَّتِهِمَا}: أولادهما.
{النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}: أي: الكتب. فهو للجنس.
ابن عبّاس - رضيَ الله عنهما -: " الخطّ بالقلم " (١٨).
{فَمِنْهُمْ}: من الذريّة {مُهْتَدٍ}: مَن اهتدى باتّباع الرسل.
{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦)}: خارجون عن الإيمان والطاعة.
{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا}: أي: أرسلنا رسولاً بعدَ رسولٍ على إثر نوحٍ وإبراهيمَ - عليهما السلام - ومَن مضى من الأنبياء.
ولا يعود الضميرُ إلى الذريّة؛ لأنَّ الذريّةَ باقيةٌ بعدُ (١٩).
{وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}: أتبعناهم جميعاً عيسى.
{وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ}: قيل: جاءه دفعةً واحدةً (٢٠).
{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}: ساروا سيرته (٢١) واتّبعوا منهاجَه.
{رَأْفَةً}: مودّةً {وَرَحْمَةً}: شفقةً وعطفاً، أي: أمرناهم بالرَّحمة فيما بينهم (٢٢).
وقيل: أُمروا بالصَّفح عن أذى النَّاس، وقيل لهم: مَن لطم خدكَ الأيمنَ فولّه خدكَ الأيسرَ، ومَن سلب رداءَك فأعطه قميصَك (٢٣).
(١) الآسُ: شجر ورقه العطر، الواحدة بالهاء آسة. انظر: كتاب العين (٧/ ٣٣١)، مادة " آس ".
(٢) أورده الماوردي في النكت والعيون (٥/ ٤٨٣)، والسمعاني في تفسيره (٥/ ٣٧٨).
(٣) في (ب) " وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " بدون ذكر ابن عمر.
(٤) " أربع " ساقطة من (ب).
(٥) " الماء " ساقطة من (ب).
(٦) أخرجه الثعلبي في تفسيره (٩/ ٢٤٧) وأورده البغوي في تفسيره (٨/ ٤١)، وعزاه الزيلعي للثعلبي في تفسيره، وقال الحافظ ابن حجر: " أخرجه الثعلبي من حديث ابن عمر، وفي إسناده من لا يعرف". انظر: تخريج الكشاف (٣/ ٤١٨).
(٧) انظر: غرائب التفسير (٢/ ١١٨٨)، تفسير البغوي (٨/ ٤١).
(٨) في (ب) " ولأنَّه ".
(٩) فيكون الإنزال حقيقي على اختيار المصنف، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما -. انظر: جامع البيان (٢٧/ ٢٣٧)، النُّكت والعيون (٥/ ٤٨٣)، زاد المسير (٧/ ٣٥٠).
(١٠) الزُّجُّ: زُجُّ الرُّمْحِ والسَّهم، والزُّجُّ الحديدة التي تُرَكَّبُ في أَسفل الرمح والسِّنانُ يُرَكَّبُ عاليَتَه والزُّجُّ تُرْكَزُ به الرُّمْح في الأَرض والسِّنانُ يُطْعَنُ به، والجمع أَزْجاجٌ انظر: لسان العرب (٢/ ٢٨٥)، مادة " زَجَجَ ".
(١١) انظر: جامع البيان (٢٧/ ٢٣٧)، النُّكت والعيون (٥/ ٤٨٣).
(١٢) انظر: تفسير السمعاني (٥/ ٣٧٨)، زاد المسير (٧/ ٣٥٠).
(١٣) معاني القرآن (٥/ ١٠٣).
(١٤) تكرر هذا المعنى في أكثر من موضع في القرآن كقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} البقرة: (١٨٧).
(١٥) انظر: إعراب القرآن؛ للنَّحَّاس (٤/ ٢٤٤)، إملاء ما منَّ به الرحمن؛ للعكبري (٢/ ١٢١٠).
(١٦) في (ب) " أبوان الأنبياء ".
(١٧) قال أبو حيان: " لما ذكر تعالى إرسال الرسل جملة أفرد منهم في هذه الآية نوحاً وإبراهيم - عليهما السلام - تشريفاً لهما بالذكر، أمَّا نوح؛ فلأنه أول الرسل إلى من في الأرض، وأما إبراهيم فلأنه انتسب إليه أكثر الأنبياء - عليهم السلام - وهو معظم في كل الشرائع ". انظر: البحر المحيط (١٠/ ١١٤).
(١٨) انظر: الجامع لأحكام القرآن (١٧/ ٢٥٠)، البحر المحيط (١٠/ ١١٥).
(١٩) انظر: تفسير البيضاوي (٢/ ٤٧١)، تفسير أبي السعود (٦/ ٢٠٩).
(٢٠) انظر: إعراب القرآن؛ للنَّحَّاس (٤/ ٢٤٥)، تفسير السمعاني (٥/ ٣٧٩).
(٢١) في (ب) " ساروا بسيرته ".
(٢٢) انظر: النكت والعيون (٥/ ٤٨٤)، تفسير السمرقندي (٣/ ٣٨٩).
(٢٣) انظر: غرائب التفسير (٢/ ١١٩٠)، تفسير القرآن العظيم (٢/ ٨٩).