ثمَّ إذا صرتَ إلى ما يَصِفهُ الخاصَّةُ مِن تركيب الأعضاء، ومنافعِ كلِّ جزءٍ منها على ما وَصَفَهُ أصحابُ التَّشريحِ في كتبِهم، رأيتَ ما يَحارُ في أعاجيبِه العقول، ووقفتَ على بدائعَ لا يَهتدي لوصفها الألباب، وعلمتَ أنَّ ذلك تفرَّد به ربُّ العالمين.
ثمَّ إنها بوجودِها تدلُّكَ على قدرةِ صانعِها، وأنَّ قدرتَهُ على الكمال؛ لاستحالةِ صحَّة الاختراع ممَّن لا يكونُ قدرتُه على الكمال.
ثمَّ يدلُّك تقدُّمُ بعضِها على بعضٍ مع جواز أنْ يكون متأخِّرًا، وتأخُّرُ بعضها عن بعضٍ في الوجود مع جواز أنْ يكون متقدِّمًا، واختصاصُ كلٍّ مِن الجنس بحالٍ مخصوصٍ، ووقتٍ مخصوصٍ، ومحلٍّ مخصوصٍ، وقدْرٍ مخصوصٍ، مع جواز خلافهِ: على إرادةِ مريدٍ خصَّها بها.
ثمَّ يدلُّكَ إتقانُها، ونظامُها، وإحكامُها، على علم صانعِها؛ لاستحالةِ وجودِ أفعالٍ متقنةٍ محكمةٍ منظومةٍ مِن غير عالمٍ بها، كاستحالة وجودِ كتابةٍ منظومةٍ (١) من غير عالمٍ بالكتابة.
ثمَّ يَدلُّكَ جملةُ ذلك على حياة صانعِها؛ لاستحالة قيامِ القُدرة والإرادة والعلمِ بمَن لا يوصَفُ بالحياة.
ثمَّ يَدلُّكَ انتظامُ أمورِ العالَم على أنَّه واحدٌ لا شريكَ له؛ إذ لو كان معه غيرُه لاضْطَربتِ الأمورُ، واختلَّ التَّدبيرُ، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} الأنبياء: ٢٢.
ثمَّ يَدلُّكَ ارتباطُ بعض ما في العالم ببعضٍ، وحاجةُ بعضِها في البقاء إلى بعضٍ، على أنَّ خالقَها واحدٌ، وذلك مثلُ حاجة الإنسانِ وسائر الحيوانات
(١) في (ف): "منصوصة".