وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}:
قال الكلبي: لمَّا أنزل اللَّه تعالى عيوبَ المنافقين وبيَّن نفاقهم في غزوة تبوك، قال المؤمنون: واللَّه لا نتخلَّف عن غزوةٍ يغزوها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا سريةٍ أبدًا، فلما قدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمر بالسرايا إلى العدو (١) نفر المسلمون -رضي اللَّه عنهم أجمعين- جميعًا، وتركوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وحده بالمدينة، فنزلت الآية الكريمة الشريفة عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- (٢).
فعلى هذا تفسيرُ الآية: ليس من حُكم المؤمنين رضي اللَّه عنهم أن ينفروا جميعًا ويتركوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بغيرِ أصحابٍ ويضيِّعوا أهاليَهم وأموالَهم، فهلَّا خرج من كلِّ قبيلةٍ جماعةٌ منهم للغزو، وقعد طائفةٌ ليتعلَّموا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- القرآن والأحكام.
والتفقُّه: التفعُّل من الفقه، وهو طلبُه وتحصيلُه، والفقه: فهمُ موجَبات المعاني المضمَّنةِ فيها من غير تصريحٍ بالدلالة عليها، ولينذرَ هؤلاء المتفقِّهون قومَهم الخارجين إلى الغزو إذا رجعوا من الغزو إليهم ليَحذروا مخالفةَ الشرع إذا سمعوا وعلموا (٣).
وبنحوه قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا} جميعًا ويتركوا النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وحده، فهلَّا {نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} يعني: السرايا، ولا يخرجوا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا ونزل بعدهم قرآنٌ تعلَّمه القاعدون من النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قالوا: إن اللَّه تعالى أنزل على نبيِّكم بعدكم قرآنًا، وقد تعلَّمناه، فيمكثُ السرايا يتعلَّمون ما أَنزل اللَّه تعالى على نبيِّهم بعدهم، ويبعث سرايا أخرى، فذلك قوله:
(١) في (أ): "الغزو".
(٢) ذكره الثعلبي في "تفسيره" (٥/ ١١١)، والواحدي في "أسباب النزول" (ص: ٢٦٣)، وفي "البسيط" (١١/ ٩٣)، وابن الجوزي في "زاد المسير" (٣/ ٥١٦)، جميعهم عن ابن عباس من رواية الكلبي.
(٣) في (ر): "وعملوا".