وسلم-، وهكذا انقضى عهد النبوة ولم يُجمع في مصحف واحد، بل كُتب منثورًا بين قطع الجلد والعظام ونحوها". (١)
ويرد هنا سؤال من الأهمية بمكان ألا وهو: لماذا لم يُجمع القرآن الكريم على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- في مصحف واحد؟
والجواب: أن لله الحكمة البالغة في ذلك، وأما عن الحكم الظاهرة في ذلك
فيقول الزرقاني (ت: ١٣٦٧ هـ) -رحمه الله-:
لم يُجمع القرآن الكريم في مصحف واحد في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- لأسباب كثيرة، يمكن أن نوجزها فيما يلي:
١ - الكثير من الصحابة كانوا يحفظون القُرْآن في صدورهم، وكانت الفتنة في تحريف القُرْآن مأمونة
٢ - قلة توفر أدوات الكتابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم-
٣ - كان النبي- صلى الله عليه وسلم- بصدد أن ينزل عليه الوحي بنسخ ما شاء الله تعالى من الآيات
٤ - القُرْآن لم ينزل جملة واحدة، بل نزل مفرقًا على مدى ثلاث وعشرين سنة حسب الحوادث. (٢)
ولم يحرص النبي- صلى الله عليه وسلم- على في مكان واحد لأن تنزيله لم يتوقف بعد، وكان - صلى الله عليه وسلم- يترقب تتابع الوحي بنزوله بين الفينة والفينة وذلك حتى لحوقه بالرفيق العلى.
فلو رتب نزول القرآن أولاً بأول، وكلما نزل منه شيء جمع في مكان واحد، أو بين دفتي مصحف واحد، لأدى هذا الفعل إلى كثرة تغيير أماكن الآيات والسور وتبديل أماكن ترتيبها كلما نزل منه شيء، ولا شك أن في هذا من العنت والمشقة والحرج ما فيه، وهو مع ذلك مأمون من الضياع لحفظه في صدور الرجال، ومن قبل ذلك كله فإن الله تعالى وعد بحفظه وقد تولى ذلك بذاته العلية، كما قال ربنا في محكم التنزيل: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون) (الحجر: ٩)
و قد اصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كُتَّابًا للوحي من خيرة أصحابه-رضي الله عنهم أجمعين- كما سيأتي بيان ذلك بالتفصيل في موضعه بإذن الله تعالى.
وهنالك أدلة قاطعة واضحة الدلالة على أن القرآن الكريم في عهد النبوة حفظ في السطور، إضافة إلى حفظه في صدور الرجال ومن أبين ما يدلل ذلك ما يلي:
(١) -مناهل العرفان للزرقاني (١/ ٢٤٧).
(٢) مناهل العرفان للزرقاني (١/ ٢٤٩: ٢٤٨).