المسألة الثانية: أبرز المقومات الداعية لاختيار "زيد"
لقد تحلى زيدٌ -رضي الله عنه- وتجمل بمحاسن الصفات الذاتية والمقومات الإيمانية العالية التي تؤهله للقيام بهذه المهمة العظيمة وتحمل مسؤوليتها، وذلك من النشاط والقوة والحيوية المصحوبة برجاحة العقل والورع والأمانة والتقوى المقرونة بالجُرأة في الحق مع تعظيم شعائر الله، إضافة إلى تحمله للمسؤولية ومعرفة ضخامة المهمة، كل ذلك مع اتقانه وحفظه للقرآن المقرون بتوافر الخبرة السابقة في أداء المهمة نفسها، ألا وهى كتابة الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم-.
ولا شك في أن تلك الصفات التي تحلى بها تعينه على دقة التحرِّي في جمع الكريم على الوجه المطلوب والذي يليق بمكانة كتاب الله تعالى سعيًا في تحقيق وعد الله تعالى الذي لا يتخلف الذي قال فيه سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: ٩).
ولنتأمل ما ثبت في الجامع الصحيح في الحديث المشهور الذي رواه البخاري بسنده عن زَيْد بْنَ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجمع القرآن، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَ اللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جمع القرآن. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) (التوبة: ١٢٨) حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (١)
وبدأ زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مهمته الشاقة، معتمدًا على المحفوظ في صدور القراء والمكتوب لدى الكُتَّاب، وقد راعى غاية التثبت؛ فمع كونه حافظًا لم يكتفِ بمجرد وجدانه الآيات مكتوبة حتى يشهد بها من تلقاها سماعًا،
(١) - صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن حديث رقم ٤٩٨٦.