صديدهم، فتعفنت من جراء ذلك أجساد بنات أفكارهم، لتأكلها السباع والوحوش الضارية من أمثالهم ومن بني جلدتهم، فهي كالْمَيْتَةِ وَالْدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، والتي هي من جنس الْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وذلك لأنها ممَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فتُلقى بعد ذلك ولا يتناولها إلا السَّبُعُ الضاري والوحش والبهيم الأعجم الذي لا يعقل ولا يعي فحسب، وهي مما لا يحل لمسلم عاقل تناوله أبدًا، وقد خاطب الله أهل الإسلام بذلك فقال جل في علاه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ) (المائدة من آية: ٣)، وهذه المحرمات في الآية "حسية حقيقية"، وتلك التي أرادوها وأوردوها محرمات "معنوية تشبيهية"، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد أحسن علماء الإسلام وأجادوا وأفادوا في تفنيد هذه الشبهات في مصنفاتهم التي خصوا بعضها لبيان غريب القرآن وكشف مشكله، كما تعرض بعض المفسرين لكثير من موارد سوء الفهم لبعض آي القرآن الكريم، فبينوا معانيها ووضحوا مقاصدها ومراميها.
ومن هؤلاء ابن قتيبة الدينوري (ت: ٢٧٦ هـ) الذي قد عقد في "تأويل مشكل القرآن" بابًا للرَّد علي هؤلاء وأمثالهم وعنونه بـ "باب ما ادّعي على القرآن من اللَّحْن " قال فيه:
"وقد اعترض كتابَ الله بالطَّعن ملحدون ولَغَوْا فيه وهجروا، واتّبعوا (مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران من آية: ٧)، بأفهام كليلة، وأبصار عليلةٍ، ونظرٍ مَدْخُول؛ فحرَّفوا الكلامَ عن مواضعه، وعدلوه عن سُبُله. ثم قَضَوْا عليه بالتناقُض، والاسحالة، واللَّحْن، وفساد النَّظْم، والاختلاف ". (١)
وكذلك قد رد الباقلانيّ على مطاعنهم وفندها ورد سهامهم في نحورهم في كتابه الشهير "الانتصار للقرآن"؛ فوضع بابًا للرد على هؤلاء وأمثالهم وعنونه
بـ "باب الكلام عليهم فيما طعنوا على القُرآن، ونحلوه من اللحْن ".
كما كتب الكثير من علماء الإسلام وردوا على تلك الشبهات والافتراءات منهم أبو بكر ابن الأنباري- (ت: ٣٢٨ هـ) -، في كتابه: "الرد على من خالف مصحف عثمان"، وأبو عمرو الداني- (ت: ٤٤٤ هـ) -، في "المقنع"، وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت: ٧٢٥ هـ) في "مجموع الفتاوى"، والسيوطي (ت: ٩١١ هـ) في "الدر المنثور"، وفي "الإتقان" كذلك، ومن الكتابات الموفقة
(١) يُنظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة الدينوري: (ص: ٤).