قال ابن قتيبة -رحمه الله-:: وأما فاتحة الكتاب فإني أشك فيما روي عن عبد الله من تركه إثباتها في مصحفه، فإن كان هذا محفوظًا فليس يجوز لمسلم أن يظن به الجهل بأنها من القرآن، وكيف يظن به ذلك وهو من أشد الصحابة عناية بالقرآن، وأحد الستة الذين انتهى إليهم العلم … ، ولكنه ذهب فيما يظن أهل النظر إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان، والزيادة والنقصان، ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد لقصرها، فلما أمن عليها العلة التي من أجلها كتب المصحف؛ ترك كتابتها، وهو يعلم أنها من القرآن. (١).
ولا شك أن توجيه ابن قتيبة -رحمه الله- من أجل التوجيهات، لموافقته للحق من جهة، ولعلو كعبه في التأدب مع الصحابي الجليل-ابن مسعود- رضي الله عنه- من جهة أخرى.
القول الثاني: قول أَبي بكر أَحمد بن عمرو بن عبد الخالق الْبَزَّار (ت: ٢٩٢ هـ)
قال أبو بكر الْبَزَّار -رحمه الله-:
وَلَمْ يُتَابِع اِبْن مَسْعُود عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَة. وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَرَأَهُمَا فِي الصَّلَاة .. وَقَدْ تَأَوَّلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر الْبَاقِلَّانِيّ (ت: ٤٠٢ هـ) فِي كِتَاب الِانْتِصَار وَتَبِعَهُ عِيَاض وَغَيْره مَا حُكِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود فَقَالَ: لَمْ يُنْكِر اِبْن مَسْعُود كَوْنهمَا مِنْ الْقُرْآن، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ إِثْبَاتهمَا فِي الْمُصْحَف، فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ لَا يَكْتُب فِي الْمُصْحَف شَيْئًا إِلَّا إِنْ كَانَ النَّبِيّ-صلى الله عليه وسلم- أَذِنَ فِي كِتَابَته فِيهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغهُ الْإِذْن فِي ذَلِكَ، قَالَ: فَهَذَا تَأْوِيل مِنْهُ وَلَيْسَ جَحْدًا لِكَوْنِهِمَا قُرْآنًا. (٢)
وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ وَابْنُ مَرْدُويَهْ عَنْ حَنْظَلَةَ السَّدُوسِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِعِكْرِمَةَ: إِنِّي أُصَلِّي بقَوْمٍ فَأَقْرَأُ بـ (قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ) وَ (قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ) فَقَالَ: اقْرَأْ بهِمَا فَإِنَّهُمَا مِن القُرْآنِ. (٣).
وصحة هذا الأثر تغني عن كل خبر.
القول الثالث: قول أَبي اللَّيْثِ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ (ت: ٣٧٥ هـ)
قال السَّمَرْقَنْدِيّ-رحمه الله-:
ورَوَى أبو مُعاوِيَةَ، عن عُثمانَ بنِ واقِدٍ قالَ: أَرْسَلَنِي أبي إلى مُحمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ أَسألُه عَنِ المُعَوِّذَتَيْنِ: أَهُمَا مِن كتاب اللهِ تعالى؟
قالَ: مَن لم يَزْعُمْ أنهما مِن كتاب اللهِ تعالى فعَلَيْهِ لَعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أَجمعينَ. (٤)
(١) تأوي مشكل القرآن، ص: (٣٥).
(٢) - يُنظر: فتح الباري لابن حجر: (٨/ ٧٤٣).
(٣) الدر المنثور: (١٥/ ٧٨٥).
(٤) - بحر العلوم: (٣/ ٥٢٩).