ومما يجد الإشارة إليه هنا هو أن الاختلاف في مسألة تواتر الأحرف لا يعني الاختلاف في تواتر القرآن ذاته، فالقرآن متواتر تواترًا قطعيًا لا يشك في ذلك أحدٌ من أهل القبلة أبدًا.
وكان هذا التنبيه حتى لا يظن ظانٌّ أو أن يتطرق إلى ذهنه الخلط بين الاختلاف في القول بتواتر الأحرف، فيحمل ذلك الخلاف على تواتر القرآن كذلك، فيظن أن القرآن غير متواتر أو مختلف في تواتره، ولا شك في أن القرآن كله متواتر قطعًا ولا يشك في ذلك إلا جاحد أو جاهل، ولا يجادل في ذلك إلا معاند ومكابر.
القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان
ولإيضاح ذلك بصورة جلية يجب أن يُعْلَم أن إن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، وليسا شيئًا واحدًا، وهذا المعنى يتضح أكثر عند تعريف القرآن وتعريف القراءات.
فالقرآن كما هو معلوم: هو كلام الله حقيقة، المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة، لا منامًا، بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المعجز بلفظه، والمُتحدى بأقصر سورة منه، المكتوب في المصاحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس. (١)
وأما علم القراءات: فهو علم يعتني بكيفية النطق بألفاظ القرآن، والطريق الأمثل لأدائها كما نزلت ونقلت، ويعتني بنقل الخلاف الأصولي والفرشي عن أئمة القراءات والأداء بأسانيد متصلة، وذلك من حيث أحوال النطق بهذه الكلمات وكيفية أدائها.
يقول القسطلاني رحمه الله (ت ٩٢٣ هـ) في "لطائف الإشارات":
القراءات: علم يعرف منه اتفاق الناقلين لكتب الله، واختلافهم في اللغة والاعراب، والحذف والاثبات، والتحريك والاسكان، والفصل والاتصال، وغير ذلك من هيئة النطق والابدال من حيث السماع. (٢)
وقيل علم القراءات: علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوا لناقله. (٣)
وقيل علم القراءات: علم بكيفيات أداء كلمات القرآن الكريم ونطقها، من تخفيف، وتشديد، واختلاف ألفاظ الوحي في الحروف. (٤)
(١) -أصول الفقه (ص: ٢٣)، مباحث في علوم القرآن: (ص ١٥: ١٧).
(٢) - لطائف الإشارات لفنون القراءات: (١/ ١٧٠). ويُنظر: علم القراءات - نشأته - أطواره - أثره في العلوم الشرعية: (ص: ٢٧).
(٣) منجد المقرئين: (ص: ٤٩).
(٤) - أساس البلاغة: (١/ ١٠٠).