وما يقوي هذا القول الذي ذهب أصحابه إلى تفسير الأحرف السبعة على أصح الأقوال وأصوبها أنها اللغات واللهجات، بيان ذكر الباعث على استزادة النبيِّ صلى الله عليه وسلم جبريلَ، فما زال جبريلُ يزيده، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يستزيده حتى بلغت الزيادة إلى سبعة أحرف، والسبب الرئيس الباعث على ذلك كما مر معنا هو التهوين والتسهيل والتيسير على الأمة، وإنما كانت هذه الاستزادة في العهد المدني الذي شهد دخول فئام من قبائل العرب في دين الله أفواجًا، وهم قبائل شتى بين كل قبيلة منها اختلاف وتنوع كبير في لهجاتها وطريقة أداء بعض حروفها وكلماتها، فلو اكتفى بنزول القرآن على الحرف الأول الذي نزل به ابتداءً، ألا وهو حرف قريش، لحصل الكثير
من المشقة والعنت على قبائل كثيرة، ولا شك في أن بيان معنى هذه الحروف متفرع عن سبب ورودها، ذلك لأن سبب ورودها هو المبحث الرئيس الذي يتفرع عنه كل ما يتعلق بالأحرف السبعة من مباحث.
وحول هذا المقصد يقول ابن الجزري (ت ٨٣٣ هـ) - رَحِمَه الله-:
فأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها، شرفًا لها، وتوسعة، ورحمة، وخصوصية لفضلها، وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق، وحبيب الحق. (١)
فإن أدركنا الحكمة المتوخاة من نزول القرآن على سبعة أحرف- والتي أشرنا إليها أيضًا ضمن جملة المعالم في صدر البحث- وعلمنا أنها التخفيف على الأمة وتسهيل سبيل قراءة القرآن عليها، ثم بحثنا بعدئذ عما يمكن أن يصدق عليه ويحقق هذا التيسير في القراءة، لوجدناه يتمثل في كل من اللهجات واللغات، ولرأينا هذه الرخصة منوطة بهما سوية، وأن افتقارهما وحاجتهما إليها أمر مشاهد ملموس، لا نزاع ولا جدال فيه.
قال البغوي (ت ٥١٦ هـ) - رَحِمَه الله-:
وأظهر الأقاويل وأصحها وأشبهها بظاهر الحديث؛ أن المراد من هذه الحروف اللغات، وهو أن يقرأه كل قوم من العرب بلغتهم. (٢)
ومما يُجدا الإشارة إليه في ختام هذا المبحث الهام ما يلي:
أولًا: أن جبريل نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها حرفًا حرفًا، وأنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ بها جميعًا، وأقرأ الناس عليها، وقرءوا بها، فلا يسبقن إلى الذهن أن الأحرف السبعة راجعة إلى لغات الناس واختيارهم في ذلك كما يشاءون.
(١) النشر في القراءات العشر، ج ١/ ص ٢٢.
(٢) -شرح السنة، الإمام البغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط و زهير الشاويش، ج ٤/ ص ٥٠٧ و ٥٠٨، ط ثانية، ١٩٨٣ م، المكتب الإسلامي، ويُنظر: الأحرف السبعة، مجلة نهج الإسلام العدد/ ١٣٩/ بقلم: محمد هيثم فخري الدالاتي.