وقد نفى أحد الباحثين المعاصرين عن الجاحظ هذا الانتساب لمذهب الصَّرْفة بتفريقه بين مراد الجاحظ ومراد شيخه. (١)
والحقيقة: لقد وقع الجاحظ في التناقض والاضطراب لقوله بالصرفة - وإن اختلف مفهومه لها عن مفهوم أستاذه النظّام.
قال مصطفى صادق الرافعي (ت: ١٣٥٦ هـ) -رحمه الله-:
" أما الجاحظ فان رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، غير أن الرجل كثير الاضطراب، فان هؤلاء المتكلمين كأنما كانوا في منخل، ولذلك لم يسلم هو أيضًا من القول بالصَّرْفة … ثم قال (الرافعي) مبررًا قول الجاحظ بالصَّرْفة: وقد يكون استرسل بهذه العبارة لما في نفسه من أمر أستاذه النظّام، وهو شيء ينزل على حكم الملابسة، ويعتري أكثر الناس إلا من تنبه له أو نبه عليه، أو يكون هو ناقلًا ولا يدري … ". (٢)
وما قاله الرافعي عن الجاحظ هو القول العدل فيه الذي يشهد له كلام الجاحظ نفسه.
٦ - "الرماني" علي بن عيسى أبو الحسن الرماني المعتزلي. (٣)
والصَّرْفة عنده تشبه الصَّرْفة عند الجاحظ، فهي لا تقدح في بلاغة القرآن وحسن تأليفه، وإن كان الجاحظ فيه ما فيه من التناقض والاضطراب.
وقد ذكر الرماني أن القرآن في أعلى مراتب البيان، ولا يدانيه شيء من كلام فصحاء العرب وبلاغييهم، وصَّرْفة الرماني - كما هو الشأن عند الجاحظ - من فعل الله بالقوم، فهي إذن شيء خارج عن إرادتهم، ووقع عليهم بقدرة الله وتدبيره …
يقول الرماني:
"وأما الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات التي دلت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الاعجاز .. " (٤)
(١) -الإعجاز البلاغي للدكتور. محمد أبو موسى، (ص: ٣٧٠)، ويُنظر مدونة: نورة الشريف-بتاريخ: ١٣/ ٦/ ٢٠٠٨ م.
(٢) - إعجاز القرآن - مصطفى صادق الرافعي، ص ١٦٥.
(٣) - أبو الحسن الرماني (٢٩٦ - ٣٨٤ هـ = ٩٠٨ - ٩٩٤ م). باحث معتزلي مفسر. من كبار النحاة. أصله من سامراء، ومولده ووفاته ببغداد. يُنظر: بغية الوعاة ٣٤٤ ووفيات الأعيان ١: ٣٣١ وسير النبلاء - خ. الطبقة الحادية والعشرون. وتاريخ بغداد ١٢: ١٦ ونزهة الألباب ٣٨٩ ومفتاح السعادة ١: ١٤٢ وإنباه الرواة ٢: ٢٩٤.
(٤) - النكت في إعجاز القرآن - علي بن عيسى الرماني - (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) الطبعة الثالثة دار المعارف بمصر - ص ١١٠ تحقيق محمد خلف الله أحمد وزميله.