حولها أخذ اللغة، وحفظ الشعر، وأحاط بالأخبار، وعرف الأنساب، وحذَق الرميَ، وفي مجالس علمها تلقى السنَّة عن أعلامها، والفقهَ عن شيوخها وأئمتها، كل ذلك في نحو عشر سنوات مباركات أو أكثر منها قليلاً، كان يراوح فيها بين الإقامة للارتواء من حلق العلم، والارتحال لارتضاع اللغة من نبعها الصافي بالبادية.
وكانت مكة تمثل بين مراكز العلم والفقه مدرسة متميزة، ذات خصائص ومنهج خاص بها، قال ذلك -بحق- شيخنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة، قال: " تتميز بأنها تُعنى بتفسير القرآن، وتعرّف أسباب نزوله، ورواية تفسيره، وتفهم القرآن على ضوء ذلك، وفي ضوء لغة العرب، وبعض عاداتهم (١) " فهي مدرسة ابن عباس التي اتخذها مقاماً له.
" وكانت المماثلة في الجملة قائمة بين ابن عباس والشافعي: فالشافعي كان فصيح البيان، كما كان ابن عباس من قبل، وكان يُعنى بعلم القرآن كما عُني ابن عباس وأجاد، وكان يعنى بالشعر كما يعنى بالفقه كما فعل ابن عباس، ثم كان يحضر دروسه طالبو القرآن، وطالبو الحديث، وطالبو الفقه، ورواة الشعر والعربيه، كما كان الشأن مع ابن عباس. فهل كان الشافعي يجعل من ابن عباس مَثلَه الكامل ويترسم خطاه؟
أيّاً كان الأمر، فمن المؤكد أن الشافعي بإقامته في مكة ودراسته بها قد استفاد علماً لم يكن بالعراق ولا بالمدينة، وهو الأخذ بطريقة ابن عباس في العناية بدراسة القرآن، والعناية بمجمله ومفصله، ومطلقه، ومقيده، وخاصه وعامّه؛ حتى خرج بفقهٍ جديد، غير ما في العراق وما في المدينة " (٢).
الرحلة إلى الإمام مالك
بعد أن أحاط الشافعي بعلم شيوخه في مكة المكرمة من المحدثين والفقهاء، وبلغ بينهم من المنزلة ما بلغ تاقت نفسه للهجرة إلى المدينة؛ فقد كانت شهرة مالك قد طبقت الآفاق، وسارت بها الركبان، وسواء كانت رحلته إلى مالك بنصحٍ وتوجيهٍ، أو بباعث شخصي خاص به -وهذا ما نرجحه- فقد أحب أن ينظر في الموطأ قبل أن يلقى
(١) ر. الشافعي: حياته وعصره: ٤٢ - ٤٥.
(٢) السابق: نفسه.