الماوردي كتاب (الحاوي) في فقه الشافعية، كما ألف إمام الحرمين (النهاية)، وكلاهما له كتاب في السياسة الشرعية: الماوردي له كتاب (الأحكام السلطانية) الشهير، وإمام الحرمين له كتاب (غياث الأمم) أو الغياثي.
ولكن لكل من الرجلين شخصيته المتميزة فيما يكتب ويصنف، فإمام الحرمين أبعد وأعمق، والماوردي أقرب وأسهل. إمام الحرمين يُعمل العقلَ أكثر من النقل، والماوردي يعمل النقل أكثر من العقل، وقد يعبر عن هذا فيقال: الأول عقله أكبر من علمه، والثاني علمه أكبر من عقله. وكأن إمام الحرمين يصنف للمنتهين، والماوردي يصنف للمبتدئين والمتوسطين، الأول مولع بالأصيل والجديد، والثاني مهتم بتقرير التليد. الأول همه ماذا يقول؟ والثاني همه -مع هذا- ماذا قال السابقون؟ الأول محسوب على أهل الإبداع، والثاني محسوب على أهل الاتباع. ولكل منهما فضله وأثره، وسوقه، ومحبوه، وأجره إن شاء الله، وإن جار الإمام الجويني على عصريِّه الماوردي، وأساء إليه، كما سنرى، غفر الله له.
كلمة عتاب لإمام الحرمين (١):
هذا هو إمام الحرمين: إمام علا القمة بجدارة، وأوفى على الغاية في فكره وفقهه، وفي إنتاجه وعطائه، وفي مكارمه وفضله، وفي غيرته على دينه ودفاعه عنه، ومع هذا، فالكمال لله تعالى وحده، والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وكم كنت أتمنى لهذا الإمام الكبير ألا يبالغ في مدح نظام الملك، كما هو ظاهر في أكثر من موضع في كتابه (الغياثي) وفي مقدمته خاصة، حين قال في قصيدة له يمدحه بها:
وما أنا إلا دوحة قد غرستها ... وأَسْقَيتها، حتى تمادى بها المدى
فلما اقشَعَر العودُ منها وصَوَّحت ... أتتك بأغصان لها تطلبُ الندى
وقد قال التاج السبكي: " إنه وجد بخطه رضي الله عنه في خطبته للغياثي -وهو عنده بخطه- أنه قد ضرب على البيتين الأخيرين، قال السبكي: وسررت بذلك، فإني سمعت شيخ الإسلام -يعني والده التقي السبكي- رحمه الله يحكي عن شيخنا
(١) هذا تعبير فضيلة الدكتور القرضاوي ورأيه، ونحن مأمورون بذكر محاسن موتانا؛ كما في الحديث الصحيح. اهـ (الناشر).