التوبة ذريعة إلى إسقاط الحدود كلها، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة ماعز " لعله يتوب " حمله بعض الحذاق على الرجوع عن الإقرار، وأصل التوبة في اللسان الرجوع، وكان قد ثبت الحد على ماعز بإقراره.
فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أتى من هذه القاذورات شيئاً، فليستتر بستر الله " (١). ولو كان الحد لا يسقط بالتوبة، لكان فيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريض على كتمان حقٍّ واجبٍ لله تعالى. قلنا: لا يمتنع أن تكون توبة المستتر الذي لا يبدي صفحته بمثابة توبة قاطع الطريق قبل الظفر به.
وفيما ذكرناه احتمال؛ فإنّ سبب قبول توبة المحاربين عطفُهم على الطاعة، وردُّهم بالاستمالة إليها. وهذا المعنى لا يتحقق فيما ذكرناه، والمسألة محتملة.
وتمام الحديث يدل على أن التوبة بعد ظهور وجوب الحد لا تنجع، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في تمام الحديث: " فإنه من يبدي لنا صفحته نقيم عليه حد الله تعالى " (٢). وهذا نص في أن التوبة لا تنفع.
١١٠٥٤ - وقد عاد بنا الكلام إلى تفصيل القول في الهرب، وقد ذكرنا فيه اختلافاً، واضطرب أئمتنا في تنزيله: فقال قائلون: الخلاف في الهرب إنما يجري إذا كان الحد ثابتاً بالإقرار، فأما إذا ثبت بالبينة، لم ينفع الهرب.
وقال قائلون: الخلافُ جارٍ سواء ثبت الحد بالبينة أو بالإقرار (٣).
وذكر بعض الأئمة مسلكاً حسناً في ذلك، فقال: الخلاف في أن الهارب هل يتبع؟ فأما المصير إلى أن الحد يسقط به، فلا، ولو امتنع من عليه الحد عن
(١) حديث " من أتى من هذه القاذورات شيئاً .. " رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم، والشافعي عنه، وقال: هو منقطع. وقد روي مسنداً من حديث ابن عمر بلفظ (اجتنبوا هذه القاذورات) رواه الحاكم في المستدرك (ر. الموطأ: ٢/ ٨٢٥، المستدرك: ٤/ ٢٤٤، ٣٨٣، التلخيص: ٦/ ١٠٦ ح ٢٠٣٩).
(٢) تمام الحديث، أي حديث " من أتى من هذه القاذورت ... ".
(٣) في الأصل: " أولاً بالإقرار ".