الأصحاب: لا تشترط دعوى الجحود، ويكفي أن يدعي ويُعلِم ويبغي إقامةَ البيّنة، ولا يتعرض للجحود ولا لنقيضه.
وهذا متجه؛ فإنه إن كان مقراً، فلا مضادة، وإن كان منكراً، فالبينة قائمة في محلها، والقضاء على الغائب هُيّىء شرعاً لإثبات الحقوق على غررٍ، لا على تحقيق.
والذي حكيته عن الأصحاب مبناه على دعوى جحود سابق، والبقاء على إصرار عليه؛ فإنه الظاهر ما لم يثبت نقيضه. وهذا وإن كان كذلك، فهو جحود منقضٍ، والذي عليه دوران المذهب أن المدعى عليه إذا كان حاضراً، فلا يشترط في إقامة البيّنة عليه إنكاره، بل يشترط عدم إقراره؛ فإنه لو سكت أقيمت البيّنة عليه.
وقولنا: شرط قيام البيّنة عدمُ الإقرار فيه (١) طرفٌ من التوسع؛ فإن الإقرار يُغني عن البينة، فإذا بان الحقُّ بالإقرار، فلا معنى للتشاغل بالبينة، وحق على القاضي أن يراجع المدعى عليه عند صحة الدعوى، وسببه طلبُ إقراره؛ فإن ذلك إن أمكن، فهو أقرب، وحق على القاضي أن يسلك أقربَ الطرق في إيصال الحق إلى المستحِق، فإذاً البينة تقام عند عدم الإقرار، فإذا غاب الخصم، فعدم الوصول إلى إقراره بمثابة سكوت الخصم في الحضور. هذا قياس المذهب. وإن كان ميل الأصحاب إلى اشتراط دعوى الجحود. هذا معنى ذكر الجحود.
فأما ما يحلّ محله، فهو بمثابة ما لو اشترى الرجل من رجل شيئاً، ووفّى الثمن، وغاب البائع، ثم استُحِقّت (٢) العين المبيعة، وأُخذت، فللمشتري أن يقيم البينة على الغائب بقبض الثمن، ولا حاجة به إلى فرض الجحود؛ فإن إقدامه على بيع ما لا يملك كافٍ في معنى الجحود، وهذا الطرف لا مراء فيه، وإنما التردد في الطرف الأول.
فإذا ترتبت الدعوى، ولاح الخصام، وظهر الغرض من التعرض للجحود، فإذا أراد المدعي أن يقيم بينة على الغائب أقامها، ثم يستفرغ القاضي الوسع في
(١) في الأصل: "منه".
(٢) استحقت: أي ظهر أنها حق لغير البائع، وأنه باع ما لا يملك.