والجواب أنه لو كسرهما جميعا أو ضمهما جميعا لكان جميلا حسنا، غير أن الذى سوغ الخلاف بينهما عندى هو تكرير اللفظ بعينه؛ لأنه لو قال: «فيه فيه»، أو «فيه فيه» لتكرّر اللفظ عينه البتة.
وقد عرفنا ما عليهم فى استثقالهم تكرير اللفظ حتى أنهم لا يتعاطونه إلا فيما يتناهى عنايتهم به، فيجعلون ما ظهر من تجشمهم إياه دلالة على قوة مراعاتهم له، نحو قولهم:
ضربت زيدا ضربت، وضربت زيدا زيدا، وقولهم: قم قائما قم قائما، وقولهم فيما لا محالة فى توكيده، أعنى الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.
ومما يدلك على قوة الكلفة عليهم فى التكرير أنهم لما صاغوا ألفاظ التوكيد لم يرددوها بأعيانها، وذلك كقولهم: جاءنى القوم أجمعون أكتعون أبصعون، فخالفوا بين الحروف، لكن أعادوا حرفا واحدا منها تنبيها على عنايتهم وإعلانهم أنه موضع يختارون تجشم التكرير من أجله، وجعلوا الحرف المعاد منه لامه لأنه مقطع، والعناية بالمقاطع أقوى منها بمدرج الألفاظ.
ألا تراهم يتسمحون بحشو البيت فى اختلافه، فإذا وصلوا إلى القافية راعوها ووفقوا بين أحكامها، أعنى فى الروى والوصل والخروج والردف والتأسيس والحركات؟ وسبب ذلك أنه مقطع، والمعول فى أكثر الأمر عليه.
ومنه إجماع الناس فى الدعاء على أن يقولوا: اختم بخير، ومنه قول الله سبحانه:
{خِتامُهُ مِسْكٌ} أى طعم مقطعه فى طيب رائحة المسك، وهذا ألطف معنى من أن يكون المراد به أن هناك خاتما عليه، وأنه من مسك.
ومن تجنب التكرير قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا} ولم يقل: من بعد الفتح تجنبا للتكرير، ولهذا-فى التكرير وكراهيتهم إياه إلا فيما يدلون بتجشمهم تكريره على قوة اهتمامهم بما هم بسبيله-نظائر.
وفيما ذكرنا كاف، فعلى هذا تكون هذه القراءة التى هى: «فيه فيه»، اختيرت لوقوع الخلاف بين الحرفين على ما ذكرنا.