الثانى لرأيت، وهو فى الأصل خبر المبتدأ. وقد ذكرنا هذا فى غير موضع من كتبنا والتعليق عنّا.
***
{فِي جَنّاتٍ وَنَهَرٍ} (٥٤)
ومن ذلك قراءة زهير الفرقبىّ: «فى جنّات ونهر» (١).
قال أبو الفتح: هذا جمع نهر، كما جاء عنهم من تكسير فعل على فعل، كأسد وأسد، ووثن ووثن.
وحكى سيبويه قراءة: «إن يدعون من دونه إلاّ أثنا» (٢)، جمع وثن. وذهب محمد بن السرىّ فى قولهم: أسد وأسد إلى أنه مقصور من فعول، يريد أسودا، فحذفت الواو، فبقى أسد، ثم أسكنت السين تخفيفا، كقولهم فى طنب: طنب.
وهذه القراءة التى هى «نهر» تشهد لقوله: إن أصله أسود، ثم حذفت الواو، فبقى أسد. فإن قلت: فقد جاء أسود، ولم يأت نهور جمع نهر.
قيل: وإن لم يأت لفظا فهو مقدّر تصوّرا، كأشياء تثبت تقديرا، فتعامل معاملة المستعمل. فإن شئت قلت فى «نهر»: إنه جمع نهر الساكن العين، فيكون كسقف وسقف، ورهن ورهن، وثطّ وثطّ، وسهم حشر وسهام حشر وفرس ورد وخيل ورد، فصارت نهر، ثم ثقل إتباعا، فصارت إلى «نهر».
وأنس بذلك أن ما قبل الراء فى أواخر هذه الآى، وهى «سقر»، و «قدر»، و «نكر»، و «مدّكر»، و «زبر»، و «مستطر»، و «مقتدر» محرك، فكأنّ الرغبة فى استواء هذه الفواصل هو الذى زاد فى الأنس بتثقيل «النّهر» على هذا التأويل الذى فى «نهر»، كما يختار ترك همز «الشان» فى سورة الرحمن (٣)؛ لتوافق رءوس الآى فيها: «تكذّبان»، ونحوها، وإليه ذهب الفراء.
***
(١) وقراءة الأعمش، وابن محيصن، وأبى مجلز، وأبى نهيك، واليمانى. انظر: (الرازى ٧٩/ ٢٩، البحر المحيط ١٨٤/ ٨، الإتحاف ٤٠٥، العكبرى ١٣٥/ ٢، مجمع البيان ١٩٣/ ٩).
(٢) سورة النساء الآية (١١٧) وهى قراءة ابن عباس، وعائشة، وعطاء، ومسلم بن جندب، وسعيد ابن المسيب. انظر: (القرطبى ٣٨٧/ ٥، الكشاف ٢٩٩/ ١، الطبرى ٢٠٩/ ٩،٢١٠، البحر المحيط ٣٥٢/ ٣، مجمع البيان ١١١/ ٢).
(٣) من قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ الرحمن:٢٩.