ولم يكن صياح النِّساء من ذلك، وإنّما كان استرجاعٌ وبكاءٌ من غير نياحة، فقال النّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -: "دَعْهُنَّ" يريد البكاء والاسترجاع، وبهذا استباح النَّاسُ البُكَاءَ، وقد اختلفَ العلّماء فيه.
الفائدةُ الخامسة (١):
فيه (٢) ثلاثة أقوال:
قيل: هو قَبلَ الموتِ مُباحٌ وبعد الموت إذا لم يصرخ، والدّليل على ذلك: قول النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلم -: "دَعْهُنَّ، فَإذَا وَجَبَت، فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ"، وقال في إبراهيم ابنه: "تَبْكِي العَينُ، ويَرقُ القَلْبُ، ولا نَقُولُ ما يُسخِطُ الرَّبَّ، وإنّا بِكَ يا إبرأهيمُ لَمَحزُونُونَ" (٣) وهو يجودُ بنفسه.
قال ابنُ حبيب: لا بأس بالبُكاء قبل الموتِ وبعدَهُ ما لم يرفع به الصّوت، وأمّا بعد الموت، فقد رُوِيَ عن ابن عمر أنّه قال: اشتكَى سَعْد بن عُبَادَة، فأتاه النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مع عبد الرحمَنِ بن عَوفٍ وابن أبي وقَّاصِ وابنِ مَسْعُودٍ، فلما دخل عليه، فَوَجَدَهُ في غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فقال: "أَقَدْ قَضَى؟ "، فقالوا: لا يا رسول الله، فبَكَى النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلم -، فلما رأى القومُ بكاءَ النّبىِّ - صلّى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فقال: ألَّا تسمعون؟ إِنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بدَمْع العَينِ، ولا بحُزْنِ القَلبِ، ولكن يُعَذِّبُ بِهَذَا -وأشار إلى لسانه- أَوْ يَرحَمُ (٤).
وأمّا قوله: "فَإذَا وَجَبَ، فَلاَ تَبْكيَنَّ بَاكِيَةٌ" يحتمل أنّ يكون منع من بكاءٍ مخصوصٍ، وهو ما جرت به العادة من الصّياح والدُّعاء بالوَيْل والثُبُورِ.
المسألة السّادسة:
قوله: "فَإِذَا وَجَبَ، فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ".
قال الإمام: إذا مات الميِّت اهتبل بجميع أموره، ويتوجّب" (٥) على أهله وقرابته أمور سبعة:
(١) ما عدا السطر الثّاني فالفقرة الأولى مقتبسةٌ من المنتقى: ٢/ ٢٥ - ٢٦.
(٢) أي في البكاء على الميِّت.
(٣) أخرجه البخاريّ (١٣٠٣)، ومسلم (٢٣١٥) من حديث أنس.
(٤) أخرجه البخاريّ (١٣٠٤)، ومسلم (٩٢٤) من حديث عبد الله بن عمر.
(٥) ويمكن أنّ تقرأ: "ويتوجه".