أول دار بمكة سمعت عزفا فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني، فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس، فعدت إلى صاحبي، فسألني فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ودخلت مكة فأصابني مثل أول ليلة، ثم ما هممت بعده بسوء» «٨» .
العبر والعظات:
يدل حديث بحيرا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو حديث رواه عامة علماء السيرة ورواتها وأخرجه الترمذي مطوّلا من حديث أبي موسى الأشعري- على أن أهل الكتاب من يهود ونصارى، كان عندهم علم ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام ومعرفة بعلاماته، وذلك بواسطة ما جاء في التوراة والإنجيل من خبر بعثته وبيان دلائله وأوصافه. والدلائل على ذلك كثيرة مستفيضة.
فمنها ما رواه علماء السيرة من أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل مبعثه ويقولون: إن نبيا سيبعث قريبا سنتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، ولما نكثوا عهدهم أنزل الله في ذلك قوله: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ البقرة ٢/ ٨٩ .
وروى القرطبي وغيره أنه لما نزل قول الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ البقرة ٢/ ١٤٦ سأل عمر بن الخطاب عبد الله بن سلام وقد كان كتابيا فأسلم: أتعرف محمدا صلّى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، أما ابني فلا أدري ما الذي قد كان من أمّه. ولقد كان سبب إسلام سلمان الفارسي تتبع خبر النبي صلّى الله عليه وسلم وصفاته من الإنجيل والرهبان وعلماء الكتاب.
ولا ينافي هذا أن كثيرا من أهل الكتاب ينكرون هذا العلم، وأنّ الأناجيل المتداولة خالية عن الإشارة إلى ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم. فمن المعلوم بالبداهة ما تقلّب على هذه الكتب من أيدي التبديل والتغيير المتلاحقة. وصدق الله إذ يقول في محكم تبيانه:
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ البقرة ٢/ ٧٨، ٧٩ .
أما إقباله على رعي الأغنام لقصد اكتساب القوت والرزق ففيه ثلاث دلالات هامة:
(٨) رواه ابن الأثير ورواه الحاكم عن علي بن أبي طالب وقال عنه: صحيح على شرط مسلم. ورواه الطبراني من حديث عمار بن ياسر.