الأولى: الذوق الرفيع والإحساس الدقيق اللذان جمّل الله تعالى بهما نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلم. لقد كان عمه يحوطه بالعناية التامة، وكان له في الحنوّ والشفقة كالأب الشفوق، ولكنه صلّى الله عليه وسلم ما إن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتى أقبل يكتسب، ويجهد جهده لرفع بعض ما يمكن رفعه من مؤونة الإنفاق عن عمه. وربما كانت الفائدة التي يجنيها من وراء عمله الذي اختاره الله له، فائدة قليلة غير ذات أهمية بالنسبة لعمه أبي طالب، ولكنه على كلّ تعبير أخلاقي رفيع عن الشكر، وبذل للوسع، وشهامة في الطبع، وبرّ في المعاملة.
الثانية: وتتعلق ببيان نوع الحياة التي يرتضيها الله تعالى لعباده الصالحين في دار الدنيا.
لقد كان سهلا على القدرة الإلهية أن تهيئ للنبي صلّى الله عليه وسلم، وهو في صدر حياته، من أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعيا وراء القوت.
ولكن الحكمة الإلهية تقتضي منا أن نعلم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بكدّ يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبني جنسه، وشر المال ما أصابه الإنسان وهو مستلق على ظهره دون أن يرى أي تعب في سبيله، ودون أن يبذل أي فائدة للمجتمع في مقابله.
الثالثة: إن صاحب أي دعوة، لن تقوم لدعوته أي قيمة في الناس إذا ما كان كسبه ورزقه من وراء دعوته أو على أساس من عطايا الناس وصدقاتهم. ولذا فقد كان صاحب الدعوة الإسلامية أحرى الناس كلهم بأن يعتمد في معيشته على جهده الشخصي أو مورد شريف لا استجداء فيه حتى لا تكون عليه لأحد من الناس منة أو فضل في دنياه فيعوقه ذلك عن أن يصدع بكلمة الحق في وجهه غير مبال بالموقع الذي قد تقع من نفسه.
وهذا المعنى وإن لم يكن قد خطر في بال الرسول صلّى الله عليه وسلم في هذه الفترة، إذ إنه لم يكن يعلم بما سيوكل إليه من شأن الدعوة والرسالة الإلهية، غير أن هذا المنهج الذي هيأه الله له ينطوي على هذه الحكمة ويوضح أن الله تعالى قد أراد أن لا يكون في شيء من حياة الرسول قبل البعثة ما يعرقل سبيل دعوته أو يؤثر عليها أي تأثير سلبي، فيما بعد البعثة.
وفيما قصه النبي صلّى الله عليه وسلم عن نفسه من خبر حفظ الله إياه من كل سوء منذ صغره وصدر شبابه، ما يوضح لنا حقيقتين كل منهما على جانب كبير من الأهمية:
الأولى: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان متمتعا بخصائص البشرية كلها، وكان يجد في نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميولات الفطرية التي اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها. فكان يحس بمعنى السمر واللهو ويشعر بما في ذلك من متعة، وتحدثه نفسه لو تمتع بشيء من ذلك كما يتمتع الآخرون.
الثانية: أن الله عز وجل قد عصمه مع ذلك عن جميع مظاهر الانحراف وعن كل ما لا يتفق