يقه ذلك بين المتحدثين بالعامية الواحدة - ان أبحنا لأنفسنا اطلاق هذا الوصف على عامية أي قطر -، ويقع مثله بل أكثر منه بين المتحدثين بالعاميات المختلفة في الأقطار العربية.
وهذا ما دعا الى اصدار الكتب المعنية بكل واحدة من هذه العاميات، مثل كتاب «لحن العامة» لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي الذي عني بعامية الأندلس، و «تثقيف اللسان وتلقيح الجنان» لأبي حفص عمر بن خلف بن مكي الذي عنى بعامية صقلية والأندلس، و «معجم عطية في العامي والدخيل» الذي عني بعامية لبنان، و «رفع الاصر عن كلام أهل مصر» للشيخ يوسف المغربي.
والصلة بين هذه العاميات واللغة العربية «الفصيحة» لا يشك فيها أحد. قد تتفاوت هذه الصلة وهنا وقوة في العاميات المتعددة، بل في العامية الواحدة في الأطوار الزمنية التي تمر بها. وقد تتصل بعض العاميات بلغت غير العربية وتأخذ منها، كما فعلت العامية العراقية مع الفارسية والتركية، والسورية مع السريانية، واللبنانية مع الفرنسية، والمصرية مع التركية والايطالية .. وقد تتباعد مواضع الاتصال بين العربية والعاميات بسبب القبائل التي ينتمي اليها جمهور هذا القطر أو ذاك، فتتصل عامية أحد الأقطار بلهجة بني تميم، وعامية ثان بأهل الحجاز، وعامية ثالث بأهل اليمن.
وكان لهذا الاتصال المتفاوت أثره في حركة التأليف العربية. وكان أول ما لفت الأنظار التباعد المتزايد بين الفصحى وغيرها، ذلك التباعد الذي أفزع اللغويين، وعدوه تحريفا للغة، وتبديلا لنقائها، واعتداء على قداستها. فأصدروا الكتب التي أعلنت الحرب عليه، مثل كتاب «لحن العامة» للكسائي المتوفي في ١٩٨ هـ، و «اصلاح المنطق» لابن السكيت المتوفي في ٢١٦ هـ، و «الفصيح» لثعلب المتوفي في ٢٩١ هـ.
ولم تجد هذه الحرب الا في لغة التدوين، فقد وقفت سداً يحدد طريقها، ويقيم مجراها، ويلم شعث ما قد يتناثر منها. ولكن لغة الحوار لم تحس لها نارا، وسارت غير آبهة، حتى أنتجت ما يشبه اللغتين المتباعدتين أو اللغات المتباعدة.
ولذلك وقف المحدثون الحرب على لغة الحديث، وقصروها على لغة التدوين. فكانت حرب صلاح الدين سعد الزعبلاوي على «أخطائنا في الصحف والدواوين» وحسين فتوح، ومحمد على عبد الرحمن، وحسن على البدراوي، وغيرهم على أخطاء تلاميذ المدارس.