جواب شبهة حول الحكمة من خلق الخلق
السُّؤَالُ
ـهذا السؤال يشغل فكري وبالي دائما ويمنعني من النوم أحيانا، ولكن كثيرا ما تتسلل الوساوس إلى نفسي لتقودني إلى طريق مظلم، مع أنني أؤدي الصلوات الخمس في وقتها وأحرص على الصلاة جماعة في المسجد قدر الإمكان وأداوم على قراءة القرآن، ما الغرض من خلقنا؟ إذا كان الجواب لعبادة الله سبحانه وتعالى، فأنا أسأل سؤالا إنكاريا: وهل الله يحتاج إلى عبادتنا؟ بالطبع لا، إذن ما الغرض؟ وما الحكمة؟ قرأت مؤخرا مقولة قالها Friedrich Nietzsche
((من غير المعقول أن يعطيك الخالق مجموعة من الغرائز والتطلعات وفي نفس الوقت يصدر تعاليم بحرمانك منها في الحياة ليعطيك إياها مرة أخرى بعد الموت))
هل بالإمكان الرد على هذه الجملة؟
بارك الله فيكم.ـ
الفَتْوَى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله تعالى خلقنا لعبادته وشرفنا بذلك مع أنه لا يحتاج لعبادتنا بل نحن الفقراء والمحتاجون لعبادته نظرا لما يسببه لنا القيام بها من سعادة الدنيا والآخرة، أما الله تعالى فهو غني كما قال سبحانه وتعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ {الزمر: ٧} وقال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ {إبراهيم: ٨} وقد تكرر في عدة آيات أن مصلحة الإتيان بالأعمال الصالحة إنما ترجع للعبد لا إلى الله وأن ضرر المعاصي إنما يرجع للعاصي لا إلى الله فقد قال تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ {النمل: ٤٠} وقال تعالى: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ {فاطر: ٨} وقال تعالى: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ {العنكبوت: ٦} وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا {فصلت: ٤٦} وقال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا {الاسراء: ٧} إلى غير ذلك من الآيات المؤكدة لما ذكرنا.
وأما المقولة التي ذكرت فهي باطلة فإن الله تعالى لم يحرم على الناس الاستجابة لما فيهم من الغرائز وإنما نظم حياتهم حسب نظام يحقق لهم المنافع ويسلمهم من المضار فقد جعل فيهم غزيزة حب النكاح ولم يحرمه بل أباحه ورغب فيه حسب نظام الشرع وهو اتيان الأزواج وما ملكت اليمين بالنسبة للرجال، وحرم الزنى لما يسببه من اختلاط الأنساب وضياعها والتفكك الاجتماعي والاعتداء على الأعراض والتضرر بأضرار الأمراض الفتاكة، وجعل في الناس غريزة حب التملك فأباح لهم التكسب ورغب فيه حسب نظام الشرع الذي يكفل للجميع الإنصاف والعدل ومنع بعض المظاهر المحرمة كالاعتداء والغصب والغش والربا لما فيها من الأضرار وبذر الأحقاد والشنآن وجعل فيه غريزة حب الأكل والشرب وأباح المآكولات والمشروبات ولم يحرم إلا ما فيه ضرر كالخنزير والميتة والخمر فهي تؤدي للامراض وفقد العقل وحرم الخبائث لخبثها كما قال تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ {الأعراف: ١٥٧} ويدل لما ذكرناه من إباحة الانتفاع بما أحب العبد مما خلق الله في الأرض قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ {الأعراف: ٣٢} وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا {البقرة: ٢٩} وقوله تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى {طه:٥٠} وقوله تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً {الروم: ٢١}
هذا وننبه إلى أن المسلم يتعين عليه التركيز على النظر في نصوص الوحي وتدبرها والبعد عن متابعة شبهات أهل الزيغ والضلال وسماع كلامهم لئلا يوقعه ذلك للشك في دينه.
والله أعلم.
تَارِيخُ الْفَتْوَى
٢٢ جمادي الثانية ١٤٢٧