وجاء بعد ذلك دور التشكيل العملي للفكرة, فنشأت فرق الصوفية وطوائفهم كل علي حسب أسلوبه في التربية. وتدخلت السياسة بعد ذلك لتتخذ من هذه الشكيلات تكأة عند اللزوم ونظمت الطوائف أحيانا علي هيئة النظم العسكرية وأخرى علي هيئة الجمعيات الخاصة. حتى انتهت إلي ما انتهيت إليه اليوم من هذه الصورة الأثرية التي جمعت بقية ألوان هذا التاريخ الطويل والتي يمثلها الآن في مصر (مشيخة الطرق الصوفية) ورجالها وأتباعها.
ولا شك أن التصوف والطرق كانت من أكبر العوامل في نشر الإسلام في كثير من البلدان, وإيصاله إلي جهات نائية ما كان إلا علي يد هؤلاء الدعاة كما حدث ويحدث في بلدان إفريقيا وصحاريها ووسطها وفي كثير من جهات آسيا كذلك.
ولا شك أن الأخذ بقواعد التصوف من ناحية التربية والسلوك له الأثر القوى في النفوس والقلوب والكلام في هذا الباب صوله ليست لكلام غيرهم من الناس ولكن هذا الخلط أفسد كثيرا من هذه الفوائد وقضى عليها.
من واجب المصلحين أن يطيلوا التفكير فإصلاح هذه الطوائف من الناس, وإصلاحهم سهل ميسور وعندهم الاستعداد الكامل له, ولعلهم أقرب الناس إليه لو وجهوا نحوه توجيها صحيحا, وذلك لا يستلزم أكثر من أن يتفرغ نفر من العلماء الصالحين العاملين , والوعاظ الصادقين المخلصين مما علق بها, وقيادة هذه الجماهير بعد ذلك قيادة صالحة. وأذكر أن السيد توفيق البكري رحمه الله فكر في ذلك وقد عمل دراسات علمية عملية لشيوخ الطرق, وألف لهم كتابا في هذا الباب , ولكن المشروع لم يتم ولم يهتم به من بعده الشيوخ , واذكر من ذلك أن الشيخ عبد الله عفيفي رحمه الله كان معينا بهذه الناحية وكان يطيل الحديث فيها مع شيوخ الأزهر وعلماء الدين, ولكنه كان مجرد تفكير نظرى لا أثر للتوجه إلي العمل فيه. ولو أراد الله والتقت قوة الأزهر العلمية بقوة الطرق الروحية بقوة الجماعات الإسلامية العملية لكانت أمة لا نظير لها توجه ولا تتوجه وتقود ولا تنقاد , وتؤثر في غيرها ولا يؤثر شئ فيها, وترشد هذا المجتمع الضال إلي سواء السبيل. أ. هـ
وفي مقال قديم للأستاذ البنا تحدث عن التصوف في ضوء تعاليم الكتاب والسنة وذلك في جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية نقل منه هذه الفقرات: حيث قال رحمه الله:
" التصوف الإسلامى بمعناه الصحيح يستمد أصوله وقواعده من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسم ككل علم إسلامى وذلك هو الذي تظاهرت عليه أقوال شيوخه وأئمته.
قال الجنيد قدس الله سره:“ علمنا هذ امقيد بالكتاب والسنة. فمن لم يسمع الحديث وبجالس الفقهاء, ويأخذ أدبه عن المتأدبين أفسد من اتبعه”.
وقال سهل بن عبد الله:“ بنيت أصولنا علي ست أشياء: كتاب الله’ وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم وكف الأذى وأكل الحلال , واجتناب الآثام , والتوبة ,وأداء الحقوق”.
وقال أبو عثمان الخيري:“ من أمر السنة علي نفسه نطق بالحكمة ,من أمر الهوى عل نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة”.
وقال أبو القاسم النصر أبادي:“ أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع”
والأقوال في ذلك كثيرة حتى قال أبو الحسن الشاذلي:“إذا استند كشف الولي إلي غير الكتاب والسنة فهو كشف شيطانى ولا يؤخذ عنه ولا يسلم”.
والقاعدة عندهم أن السنة هى الأصل لأن صاحبها صلوات الله عليه معصوم من الخطأ وما عداها تابع لأن قائليه غير معصومين فكل كلام عيرها يعرض عليها فإن وافقها قبل وإلا رفض.
وقد صار الناس يطلقون كلمة صوفي, وابن طريق , وولي, ودرويش (وهى كلمة فارسية معناها: مريد او ما يقرب من ذلك) علي كل من ظهرت عليه دلائل البلة بشؤون الحياة, أو كل من تكاسل عن أداء الفرائض الدينية وارتكب المخالفات , وادعى أن المعصية مقدرة عليه فهو ينفذها لذلك أو أنه وصل إلي درجة رفع عنه فيها التكليف أو أن حقائق الأشياء تنقلب له فيصير الخمر ماء وإلي غير ذلك من المزاعم. وقد يستدل بعضهم بما بنسب لبعض الشيوخ من قوله:
فلا تلم السكران في حال سكره
فقد رفع التكليف في سكرنا عنا
وقد علمت ما سبق أن التصوف برئ من هذه المزاعم مشيد بكتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم وأن الصوفي لا يكون صوفيا إلا بالتمسك بهما, والولي لا يكون وليا إلا إذا اهتدى بهديهما. فهما عماد الوصول ومنار طريق السلوك ولن يصل السالك إلي شئ من نور الهداية والمعرفة إلا بصدق التوجه والعمل بهما.
هذه أقوال المحققين من الصوفية أنقلها إليك وهى قليل من كثير لتعلم كيف تعلق بالأسماء وتركوا الحقائق , ,اخذوا القشور ورموا اللباب.
وما أظرف قول القائل:
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه ولا بكاؤك إن غنى المغنون
ولا صياح ولا رقص ولا طرب
ولا اضطراب كأن قد صرت مجنونا
بل التوصف أن تصفو بلا كدر
وتتبع الحق والقرآن والدينا
وأن ترى خاشعا لله مكتئبا
علي ذنوبك طول الدهر محزونا
وقول الآخر:
ألم يعلموا أن الطريق كناية
عن العمل الجارى علي وفق شرعنا
وذبح النفوس الضاريات بمدية
من الخلف حتى لا تميل الخنا
فما أشد الغفلة , وما أعظم سلطان الألفاظ!
وما ابعد العرف عن الحقيقة فاعرف ذلك جيدا وطلب لباب الأمور لتكون من الصادقين في الطلب الواصلين إلي درجات القرب إن شاء الله أ. هـ. وقد أبديت رأيى في التصوف في فتويين من كتابى (فتاوى معاصرة) الجزء الأول ,ووضحت موقفي أكثر وأكثر في مقدمة الجزء الأول من سلسلة (في الطريق إلي الله تحت عنوان (الحياة الربانية والعلم فليراجعه من أراد.
أما قول المعترضين علي الإخوان بأنهم يبالغون في حب بعضهم لبعض وأن هذا من اثر التصوف عليهم فهذه مزية تحسب للإخوان , وليس عيبا يؤخذ عليهم وهذا الحب هو الذي نفع الإخوان في المحن والشدائد التي خاضوا لججها, واكتووا بنارها فلم ينس بعضهم بعضا ولم يقل أحدهم: نفسى نفسى, بل إخوانهم المسجونين والمعتقلين, منضجين مغامرين, وكثيرا ما ضبطوا وقيدوا إلي المحاكمة وإلي السجون فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله.
لقد قيل عن ترابط الإخوان وتوادهم وتعاطفهم في مصر: هذه الجماعة التي إذا عطس أحدهم في الإسكندرية قال من في أسوان يرحمك الله.
وأذكر أن الداعية الفقيه الشيخ مصطفي السباعى رحمه الله ذكر لي: أنه سافر في سنواته الأخيرة للعلاج في أوربا, وكان يعانى من آلام مضنية, فوجد إخوة ينتظرونه في كل مطار ينزل به ويرتبون له الأمور يقول الشيخ: وأنا والله لا أعرفهم ولا هم من وطنى ولكنه (الحب في الله) الذي تميزت به هذه الدعوة قال ذلك وعيناه مغرورقتان بالدموع.
وإما قولهم: إن الإخوان غلوا في حب حسن البنا إلي درحة التقديس, فهذه مبالغة غير مقبولة ولا يرضاها أى أخ مسلم يعرف دينه. ولكنها المحبة الفطرية للقائد, والتوقير له شرعا, لأنه من الحب في الله, ومن توقير الكبير, والمعرفة بقدر العالم. وفي الحديث:“ ليس منا من لم يرحم صغيرنا , ويوقر كبيرنا” وفي لفظ: ويعرف شرف مرفوض لا يسأل عنه حسن البنا رضى الله عنه وقديما قال فقهاؤنا: النادر لا حكم له فكيف بالشاذ؟!
وأنا واحد من الإخوان وتلميذ لحسن البنا ولم أجد حرجا في أن أخالفه في بعض ما جتهد فليت شعرى أين التقديس الذي يعمونه من الإخوان لمرشدهم؟
الحق أن لا تقديس ولا اعتقاد يعصمه ولكنه الحب والتقدير للقائد وهو أدب من آداب الإسلام (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت لوهاب) .